الصادق الرزيقي

روسـيــا وســوريــا.. مــاذا وراء هـــذه العلاقــة؟؟


تبدو المنطقة على شفير الهاوية، بعد أن ألقت روسيا بثقلها في الأزمة السورية بتدخلها العسكري المباشر، ولو تلبَّث إن هوت الأوضاع برمتها إلى قاع الحجيم بعد إسقاط الطائرة الروسية عند الحدود التركية، وتأججت الحرب الكلامية والسياسية والاقتصادية الروسية التركية، وجرى سيل الاتهامات بين الجانبين، ويقف العالم اليوم على أهبة الاستعداد لما بات يسميه البعض بالحرب العالمية الثالثة، إذا لم تتم تسوية العلاقة المأزومة بين روسيا وتركيا..
والسؤال المُلح هنا، إن سوريا هي القاسم المشترك الأعظم في العاصفة القادمة على أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط والعالم، فما وراء هذه الأزمة، ولماذا تفتدي روسيا سوريا بكل ما تملك حتى دماء ضباطها وطياريها، وتغامر بسمتعها وتقامر بمحاولاتها لمد نفوذها ووضع أرجلها في المياه الدافئة؟..
خلال تواجدي في العاصمة الروسية موسكو مطلع يونيو 2012، حاولت استكناه ومعرفة حقيقة الموقف الروسي من الأزمة السورية، إذ ينظر الكثيرون مثلي في العالم العربي والإسلامي والعالم أجمع، لحساسيات الكرملين في هذه القضية الأبرز في العالم اليوم، خاصة وأن التوقعات كلها تشير إلى أن النظام الحاكم في سوريا لن يصمد طويلاً وهو في طريقه للانهيار بعد الضربات الموجعة التي تلاقاها ووصلت الحرب يومها إلى أسوار القصر الرئاسي في دمشق، ومصرع رؤوس كبيرة من قيادات الدولة مؤخراً وهم العصبة الحاكمة والمتحكمة في الأوضاع..
وبعيداً عن المعلن والشائع عن حقيقة العلاقات بين موسكو وسورية التي بدأت منذ الأربعينيات قبل انقلاب حسني الزعيم في سوريا عام 1949م وهو أول انقلاب عسكري في البلدان العربية، فإن الاتحاد السوفيتي هو الذي ساند استقلال سوريا عام 1944م ودعم موقفها لتكون عضواً مؤسساً في هيئة الأمم المتحدة الناشئة آنئذ في سان فرانسيكسو بالشاطئ الغربي للولايات المتحدة الأمريكية عام 1945م، ومنذ الخمسينيات كان الاتحاد السوفيتي هو الدولة الأولى التي حازت على كل عقودات العمل في سوريا في مجال النفط والتعدين والبني التحتية (السكك الحديدية، والسدود، ومشاريع الكهرباء، والري، والتسليح الجيش السوري، والصناعات الخفيفة). وبوصول حافظ الأسد إلى الحكم، تطورت العلاقة لتحالف إستراتيجي استمر من 1970م حتى اليوم، لتظفر موسكو بالقاعدة العسكرية الوحيدة خارج الاتحاد السوفيتي وروسيا لاحقاً، في طرطوس، ويوجد أكثر من ستمائة خبير فني عكسري روسي يعملون في سوريا في كل مرافق الجيش السوري.
بعيداً عن هذه المعلومات المُشاعة والمعروفة، فإن المجالس والتقارير السياسية والدبلوماسية في موسكو خلال الفترة الماضية، تتحدث بعمق أكثر عن حقائق العلاقة السورية الروسية وأسباب تخندق موسكو مع روسيا واستخدامها لحق النقض ضد مشروعات قرارات في مجلس الأمن الدولي بلغت أكثر من ثلاثة في أقل من تسعة أشهر.. ويمكن تلخيص هذه الحقائق والأسباب والدواع الإستراتيجية لمواقف روسيا من الأزمة السورية كما تراءت لي وسمعتها في موسكو مؤخراً في الآتي:
تنظر روسيا بقلق بالغ للتطورات التي ضربت المنطقة وفي التوجهات الجيوإستراتيجية في المنطقة العربية، لكنها لا تغفل في الوقت نفسه زيادة حدة التيارات الصاعدة في العالم الإسلامي مثل الصراع المذهبي بين السنة والشيعة، الذي تمثله المواقف الخلافية بين إيران ودول الخليج والعالم السني، فضلاً عن قلقها البالغ من التوجهات التركية في عهد أوردغان وما يسمى برغبة تركيا «الأوردغانية» في استعادة مجد وماضي الإمبراطورية العثمانية، ولم ترَ موسكو هذه التوجهات التركية ولا علاقة تركيا بالثورات العربية، وتبني حكومة أوردغان لمواقف مساندة بقوة للقضية الفلسطينة، مضحية بعلاقات تركيا السابقة مع إسرائيل، إلا محاولة لإحياء الأمبراطورية والخلافة الإسلامية التي انتهت بانقلاب أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي، وتحول تركيا نحو العلمانية في وقت متزامن مع قيام الاتحاد السوفيتي، وتمثل تركيا الإسلام السني الذي توجد له امتدادات كبيرة داخل روسيا في جمهوريات ومقاطعات شمال القوقاز الروسية (داغستان، أنغوشيا، الشيشان، بقاريا، قيردين، أوسيتا الشمالية، كارتشيف، قرتشاي شركسان) ، وكذلك وجود في القلب الروسي في مقاطعات نهر الفولغا، في (تتارستان، بشيكريا، تشوفاش، مودوفيا، ماري إيل، أودمورت)، ويشكل المسلمون ومناطقهم قوة كبيرة في روسيا تبلغ 20% من السكان، وتوجد الثروات الروسية الحقيقية مثل الغاز والنفط والأخشاب الإنتاج الزراعي في مناطق شمال القوقاز التي قد تجتاحها رياح الاستقلال وماتزال الشيشان ماضية في هذا الاتجاه، فإذا كانت روسيا قد تحالفت مع الطائفة العلوية والشيعة في إيران، فإنها تتخوف من أن تكون لتركيا الحالمة بالخلافة العثمانية في حال نزع شوكة العلويين من سوريا، وإن نفوذاً كبيراً بتشكل أكبر ظهر وسد سني ممتد من الجزيرة العربية مروراً بالشام وتركيا، ماداً نصله حتى العمق الروسي. وكانت سوريا العلوية هي الحاجز المذهبي والسياسي والمشاعري الذي حافظ عليه الاتحاد السوفيتي السابق ومازالت موسكو تقتفي أثره..
العامل الثاني هو عامل سياسي إستراتيجي محض. فروسيا هي الحليف الأول لدمشق، وحصلت منها على القاعدة العسكرية التي تسمى في روسيا محطة دعم وتموين عسكرية، وهي من أكبر القواعد الحربية في المنطقة والمكان الوحيد لموطئ القدم الروسية في المياه الدافئة، وفي حوض البحر الابيض المتوسط الذي توجد به 30 قاعدة عسكرية أمريكية تمتد من جبل طارق حتى تركيا وإسرائيل، وكانت الفرصة الوحيدة لحاملة الطائرات الروسية أدميرال كوزيتشوف للتواجد في هذه المياه عندما رست في طرطوس في الساحل السوري مما أهاج الولايات المتحدة الأمريكية التي حركت كل أساطيلها وأسرعت بإرسال حاملة الطائرات جورج بوش قبالة الشواطئ السورية.. فروسيا لن تفرض في وجودها العسكري الذي لم تكن تحلم به في هذه المنطقة، وهو سبب قوي يجعلها تحافظ على النظام الحليف لها الذي بلغت تعاقداته في التعاون الاقتصادي وديونه لها «19,5» مليار دولار، تم إعفاء 74% من هذه الديون عام 2009م.
فعلاقة من هذا النوع، لا تنفصم عُراها كما يقول مسؤولون روس بسهولة وستقف موسكو مع نظام الأسد حتى آخر نفس من أنفاسه، بالرغم من أن موسكو الرسمية تؤكد أن النظام لن يسقط بسهولة.
العامل الثالث والأقل طرقاً في وسائل الإعلام، هو أن الأسد الأب وقبله الطائفة العلوية قد أبرموا مع الاتحاد السوفيتي السابق اتفاقيات عديدة لصالح الطائفة، منها إعطاء فرص دراسية لطلبة سورية في الجامعات والدراسات العليا في مختلف المجالاتة، إضافة لتواجد سوري قديم منذ الأربعينيات وخاصة العلويين، كان نتاجه أن أكبر جالية عربية أو أجنبية في روسيا كلها هي الجالية السورية، واستطاعات مجموعات العلويين السوريين في روسيا بعد حصول أغلبهم على الجنسية الروسية، خوض غمار العمل السياسي، ويوجد ثلاثة من أكبر المليارديرات من أصل سوري في مجلس الدوما الروسي وأبرزهم رياض مقدسي، ولديهم نفوذ سياسي ومالي كبير وقد تغلغلوا في كل الأوساط الروسية ويمثلون مصالح النظام السوري هناك ويدافعون عنه بقوة في البرلمان الروسي (الدوما)، ومع الكرملين، فلهؤلاء دور بارز مع وجود العاملين السابقين في بلورة الموقف السوري الراهن، وما يحدث اليوم في المنطقة بعد التدخل العسكري الروسي المباشر..