تحقيقات وتقارير

السياحة في السودان.. بين تيس جبل مرة وبير النقعة وتقاعس الحكومة.. ضياع ملايين الدولارات


استضافت قناة النيل الأزرق – قبل مدة – المرحوم البروفيسور التيجاني محمد علام، من جامعة الخرطوم للحديث عن طيور وحيوانات السودان وأثرها في الأدب الشعبي. وتطرقت إلى ضعف السياحة في السودان رغم ثرائه وتنوعه في هذا الصدد. وأشارت إلى أنواع الطيور التي تم ذكرها في الشعر الشعبي. وقال البروفيسور الراحل إن “أحد الأصدقاء طلب مني مرافقة بعض السياح الأمريكان في رحلة نيلية من أجل الوقوف على بعض أنواع الطيور النيلية، بدأت من الجريف على ضفة النيل الأزرق، فشاهدنا أنواعاً كثيرة من الطيور، ووجدنا جزيرة صغيرة فيها تمساحان حديثي الولادة ثم عدنا إلى جزيرة توتي، فشاهدنا طيور (النعيجة)”.
ولكن أكثر ما أدهش السياح هو نقطة التقاء النيلين الأزرق العاتي الثائر والأبيض الهادئ الرزين، يضمان بعضهما في عناق أبدي، أصابت السياح حالة من الذهول فلم تتوقف كاميراهم عن التصوير. توجهنا على النيل الأبيض إلى جبل الأولياء، فوجدنا أنواعاً مختلفة من الطيور قبل أن نغفل راجعين.
ملايين الدولارات تضيع
قال السائح الأمريكي بسرور وحماس: “أنا مستعد أن أؤمن لكم تدفق السياح الأمريكان على أن تلتزموا بالقيام بنفس الرحلة، بحيث يدفع كل سائح مبلغ (10 آلاف) دولار، فكم كان سيدفعون إذا ما رأوا شلال السبلوقة؟ النيل غني بالأماكن السياحية، أما المقرن الذي لا يزال أسيراً بحديقة ألعاب الأطفال، فهو روعة الدنيا وأحلام الدهور.
الأخبار المتواترة من مصر، تقول إنها فقدت نحو ثمانية مليارات دولار في قطاع السياحة النيلية فقط، نتيجة للاضطرابات الأمنية الأخيرة، والسودان يزخر بإمكانيات في هذا النوع من السياحة يفوق أضعاف ما تتوفر عليه مصر، كونه مكاناً لالتقاء النيلين وفيه الشلالات.
في النقعة
ذات مرة ساقتني خطاي إلى النقعة والمصورات بالقرب من شندي، حيث الآثار، خاصة معبد أبادماك (رأس الأسد) المشيد من الصخر جدراناً وسقفاً، حيث لا يوجد أثر لحديد أو أسمنت أو حتى مسافات بين الصخور، ويخيل إليك أنه منحوت داخل جبل، ثم خرجت منه واتجهت غرباً، حيث توجد بئر قريبة من المعبد محفورة في الصخر، فقذفت حجراً بحجر إلى عمقه، وانتظرت نحو ثلاث دقائق، ولم أسمع صوت ارتطامه بالقاع. وفي الأثناء شاهدت رجلين برفقة صبي يقتربون من البئر على ظهور الحمير، وقبل أن ينزلوا دلوهم ربطوا طرف الحبل برقبة الحمار وأنزلوا الدلو إلى قاع البئر، ثم بدأ الصبي يبتعد بالحمار إلى مسافة لا تقل عن مائة حتى يأتي الدلو بالماء، فعدت وشربت منه، فكان شديد العذوبة.
أكثر ما أدهشني هو من أين لتلك الأمة التي مضت من أسباب التكنولوجيا حتى يحفروا بئراً في الصخر بهذا العمق ؟ وكيف لمائه أن لا ينضب أبداً؟ ثم كيف عرفوا وسط هذا الصحراء بمكان وجود الماء؟ ويا ترى كم يدفع السائح الأمريكي من أجل الحصول على هذه المعلومة ؟
أفيال وزراف
تطرق البروفيسور التيجاني إلى الحديث عن محمية الدندر وأنها توجد بها آثار ونقوش على الجبال يعتقد أنها فرعونية، وذكر أنواعاً شتى من الطيور والحيوانات التي أصبح بعضها في الانقراض كالأفيال والأسود والنمور والزراف، وذلك نتيجة للصيد العشوائي من جهة أخرى مما حدا بتلك الحيوانات الهروب إلى أماكن هادئة داخل الحدود الإثيوبية خوفاً من قعقعة السلاح، وذكر أيضا محمية غزالة جاوزت في دارفور، وكانت تعج بأنواع مختلفة من الغزلان، خاصة غزال المها، فهو من أجملها وأروعها بعينيه الزرقاوين، وقبل في الأغنية: “يا عيون المها يا عيون، يا عيون إنت لون الليل/ لونك سوداو كحيل”.
قصة الأعرابي
خطرت لي في هذا المقام قصة الأعرابي راعي الغنم الذي أتى من البادية قاصداً قصر الرصافة وقابل الخليفة العباسي، وأنشد مدحاً لينال جراءه الدراهم الذهبية، فقال: “أنت كالكلب في الوفاء وكالتيس في قراع الخطوب”، فما كان من أحد حراس الخليفة إلا أن قال آذن لي يا مولاي بدق عنقه! فرفض الخليفة وأمر بتخصيص سكن له في القصر حيث الحدائق الغناء وغزلان المها، وبعد وقت وجيز جيئ به إلى الخليفة، فكانت قصيدة: “عيون المها بين الرصافة والجسر/ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري”.
والسودان غني بثرواته السياحية، وها هو جبل مرة، حيث شلالات الماء العذب تتدفق طول أيام السنة، بجانب النبعين المتجاورين، حيث تتصاعد من الأول أبخرة الماء الساخن، بينما ينبع الثاني بماء بارد وعذب.
رحلة إلى جبل مرة
استغرقت رحلتي إلى حبل مرة من حيث بدأت نحو ساعة قبل أن يأخذ الطريق منحنى ضيق محفوف بأشجار عالية وكثيفة، هناك وفي المنحنى ذاته ظهر لنا فجأة رجل يقف في منتصف الطريق، ممسكاً بتيس، فاضطررنا إلى التوقف، وسألناها: “يا أخينا مالك واقف في السكة؟ فأشار إلى تيسه قائلاً: للبيع، فقلت لا نريده، فأجاب: أنا متأكد من أنكم تريدون شراءه، فسألته: كم تريد ثمناً له؟ فقال لي (3) آلاف جنيه، فقلت له يا أخي خاف الله، سعر أكبر خروف في نيالاً لا يتجاوز (400) جنيه. وفي الأثناء همس لي أحد أصدقائي بأن أنظر أعلى الشجرة التي على شمالي، فإذا بشابين ممسكين – كل ببندقية كلاشينكوف – مصوبتان نحونا- وبكل هدوء قلت له أمهلني أدبر المبلغ من الزملاء فجمعنا نحو (1800) جنيه، وقلنا له هذا كل ما نملك ولك تيسك هدية أيضاً. فقال مبتسماً: ألم أقل لك ستشترونه؟ ولم نحك لأحد بهذه القصة، حيث لم يكن لدنيا سلاح سوى (يد العفريتة). يا ترى كم كان سيدفع السائح الأمريكي ثمناً لذلك التيس؟

اليوم التالي


تعليق واحد

  1. السلام عليكم ورحمة الله — الشكر الجزيل للكاتب ولصحيفة اليوم التالي وللنيلين لنشرهم هذا المقال الرائع عن كنوز بلادنا المنسية إلا من بعض القليلين الحادبين على حب هذه البلاد. ألا رحم الله العلامة الجليل الاستاذ الدكتور التجاني محمد حسن علام رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ,, فقد قدم الكثير من العلم لاجيال متعددة في جامعة الخرطوم وجامعات سودانية وغيرها , وأهيب بجميع القراء والمعلقين بالدعاء له بالجنة مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا — ااميين