تحقيقات وتقارير

من تربية المواشي إلى البرج العاجي..وزيــر المالية.. سـنة واحـدة تكفي!!


انتقاد وزير ما، أى وزير، ربما كان فعلاً معتاداً، بل ومطلوباً في كثير من الأحيان خاصة من الصحفيين والكُتّاب الذين يتعاملون بصورة مباشرة مع أقوال وأفعال الوزراء – على قلتها. وبالطبع لا ينتظر الناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي إذناً من أحد حتى يفرغون جام غضبهم في الهجوم على الوزراء والحكومة التي يتفيأون ظلالها، حتى رئيس الجمهورية نفسه لم يسلم من النقد اللاذع بسبب كثير من سياسات الحكومة. لكن أن يتصدى آخرون للقيام بذات المهمة من على المنابر كما فعل خطيب مسجد مدينة المهندسين الشيخ مصطفى سيد في خطبة الجمعة الماضية عندما انتقد وزير المالية بشدة، فإنّ ذلك يعني تصعيداً نوعياً فيما يبدو، واتساعاً لافتاً في رقعة الرفض والهجوم لما نُسب للوزير بدر الدين محمود من تصريحات ألمحت لرفع الدعم عن السلع الأساسية تدريجياً في الموازنة القادمة، إلى جانب تصريح آخر يتصل بضعف انتاج الشعب السوداني.
وفي الهجوم الذي اتخذ من منبر الجمعة منصة انطلاق له، قال خطيب مسجد المهندسين إن طلب وزير المالية رفع الدعم عن الوقود والكهرباء والخبز يعبر عن عيش الوزير في برج عاجي. قبل أن يتقاسم مع آخرين اتهام الطاقم الاقتصادي في الدولة بعدم تقدير الظروف الاقتصادية التي يواجهها السودانيون بسبب معالجاتهم التي أدت للتضييق على معاش الناس، مشيراً إلى أن الأثر المباشر لمثل هذه الإجراءات القاسية يقع على ظهر الفقراء والمساكين الذين ألهب ظهرهم سوط السياسات الاقتصادية القاسية.

منصب وزير المالية هو الأكثر عُرضـةً للنقد والهجوم لجهة ارتباطه بـ (قُفة الملاح) والبعض ينظر إليه باعتباره جُزءاً من المعاناة التي يعيشها الناس
اتهام وزراء المالية بالجلوس في بروج عاجية أو بأنهم يصرحون على طريقة ماري انطوانيت ظلت من الاتهامات التي تلقى في وجههم عند كل موازنة

حساسية رفع الدعم
ما نُسب إلى الوزير بدر الدين محمود جعله في عين العاصفة ومادة دسمة للكُتّاب والناشطين، رغم أن تلك التصريحات استبطنت برأي البعض حث الشعب على توجيه طاقاته الكامنة نحو الإنتاج فقط، وعبرّت عن سياسة تم إقرارها مسبقاً عن الرفع التدريجي لدعم الدولة عن بعض السلع حتى يذهب لمستحقيه برأى آخرين، بينما ذهب مُــراقبون إلى أنّ حَديث الدّولة عَـــن الدعم يجافي الواقع الآن بسبب الانخفاض الكبير في أسعار القمح والوقود عالمياً.
وإزاء كل تلك الانتقادات الحادة للوزير وسياسة رفع الدعم، التزم بدر الدين محمود بدر الدين محمود وزير المالية صمتاً غير بليغ برأى البعض، ولم يُصدر نفي أو توضيح باستثناء ما ذهب إليه رئيس اتحاد العمال يوسف عبد الكريم من محاولة للتوضيح أضعفها أنه ليس الجهة المعنية بتقديم شروحات لمتون الوزير. فوزير المالية يمضي هذه الأيام في المسار المرسوم لإجازة الموازنة في مراحلها المختلفة من مجلس الوزراء وصولاً للبرلمان، دون أن يدري الكَثيرون على وجه الدقة حتى الآن ما إذا كان الدعم سيُرفع، أم سَيظل الحال كما هو عليه. ويلاحظ المحلل الاقتصادي د. عادل عبد العزيز أنه أصبحت هناك حساسية في إثارة قضية (رفع الدعم) رغم أنه مبدأ اقتصادي سليم، ويرى أنه من المُناسب بدلاً عن الحديث عن رفع الدعم، الحديث عن ضرورة أن يذهب الدعم للمستحقين، أي إعادة توجيه الدعم للمواطنين السودانيين دون الأجانب، ولذوي الدخل المحدود غير الأغنياء مَثَـــــلاً.

برج عاجي

اتهام وزراء المالية بأنهم يجلسون في بروج عاجية بعيداً عن عامة المواطنين، واتهامهم كذلك بأنهم يتعاملون على طريقة ماري انطوانيت التي نصحت شعبها بأكل (الجاتوه) عندما شكا من انعدام الخبز، ظلت من الاتهامات المتكررة التي تلقى في وجه وزراء المالية عقب كل تصريح وعند كل مُوازنة. ومن قبل رُددت ذات الاتهامات بشأن وزير المالية السابق علي محمود عندما نصح الناس بعد الانفصال باللجوء لأكل الكسرة رغم أنها أغلى من الخبز الذي عانت خزينة الدولة وقتها من توفير ما يلزم من دولارات لاستيراده بعد ضياع عائدات النفـــط.
واتهام وزير المالية الحالي بأنه يجلس في برج عاجي، يدفعنا للاقتراب أكثر من حياة الوزير بدر الدين. فهو – كما أخبرني في حوار سابق أجريته معه في فبراير الماضي – ينحدر من أسرة سودانية بسيطة، وأضاف بفخر لتأكيد انتمائه لتلك الأسرة البسيطة التي لا علاقة لها بالأبراج العاجية: (والدي كان موظفاً في وزارة الري في ود مدني، وعشت فترة مع جدي وكان عاملاً في الري في أبو عشر، وعملت في إجازات المدارس وكنت أجمع مصاريف مدرستي من عمل يدي، ومنذ أن كنت صغيراً ومازلت حتى الآن أنا مُربٍ للماشية، وعندي عملي الخاص صحيح هو على مستوى صغير ولكنه يجعلني لا أعتمد على الآخرين)، وبالطبع فإن تربية الماشية من المهن الشريفة والمنتجة في نفس الوقت.

وزير مالية (مطمناتي)

المُفـــارقة في الانتقادات العنيفة التي قوبلت بها تصريحات وزير المالية الاخيرة، هي أنها تأتي بخلاف ما عُرف عن الرجل الذي يأخذ البعض عليه زهده في الحديث للإعلام وإطلاق التصريحات الصحفية في وقت كانت فيه الكثير من القضايا الاقتصادية تحتاج منه لتقديم إضاءات ومعلومات من الرجل الأول الممسك بملف الاقتصاد بالبلاد. بل المفارقة أنه عرف في تصريحاته المحدودة بأنه وزير (مطمناتي) يكثر من البُشريات ولا يخبر الناس بحقيقة الوضوع الاقتصادي المأزوم برأي البعض.
وقال بدر الدين في معرض رده على هذا الاتهام، إن أيِّ حديث يجانب أو يجافي الواقع لن يكون حديثاً دقيقياً ولا أميناً. ولذلك الأمانة تقتضي أن نقول الحقائق، والطريقة التي نعكس بها الحقائق هي التي تجعل الشخص الآخر إما أن يتفاءل بأن هنالك تطورات إيجابية تمضي، أو يتشاءم بأن الوضع لا يمكن إصلاحه. ومضى للتعبير عن قناعته بأنّ الاقتصاد السوداني من واقع مُعايشته له هو اقتصاد قادر على امتصاص الصدمات، وتركيبته من الثروات الطبيعية الموجودة في السودان تمكن البلد من أن تتكيّف مع كثير من الصعاب الاقتصادية التي يمكن أن تحدث، وهذا هو الذي يحيّر الناس وحتى المراقبين الخارجيين حقيقة، فمثلاً صندوق النقد الدولي قال إن ما يحدث في السودان هو خارج عن المألوف عندهم حسب برامجهم والنظرية التي يشتغلون بها. وهذا يحمل الشخص الذي يعرف طبيعة الاقتصاد السوداني وقدراته والمخارج التي يمكن أن تكون مُــــواتية لكل موقف على التفاؤل.

أداء في الميزان

أداء وزير المالية يَنظر إليه البعض بغير عين الرضاء، ويتهم بالعجلة في تنفيذ بعض القرارات كما حَدَثَ في موضوع التحصيل الإلكتروني دون أن تكون هناك تجهيزات كافية، مع اتهام له بمراعاة قراراته لمصالح البنوك والنظام المصرفي في حين أنها كانت يجب أن تكون في إطار الفلسفة الاقتصادية الصحيحة، ولكن مثل هذا الاتهام أصبح ماضوياً الآن بعد إقرار سياسة الاستيراد بدون قيمة.
ورغم موجة الانتقادات العاتية التي ظل يتعرض لها وزير المالية طوال الأيام الفائتة، يرى محللون اقتصاديون إلى أن وزير المالية استطاع فعل الكثير من الأمور الجيدة، وفي هذا السياق يشير الدكتور عادل عبد العزيز إلى أن وزير المالية استطاع إعادة تسعير دولار القمح وهو الأمر الذي يُعتبر إنجازاً كبيراً وفر موارد ضخمة، فضلاً عن ضبط الإيرادات العامة عن طريق أورنيك 15 الإلكتروني ونظام الخزانة الواحدة الذي أحدث تأثيرا كبيرا على المالية العامة للدولة.
ويرى د. عادل أن مصدر قوة وزير المالية بدر الدين محمود هو أنه على معرفة عميقة بالاقتصاد السوداني منذ وقت طويل، فقد عمل في شركات ثم دلف للنظام المصرفي ليعمل مديراً لعدد من البنوك ثم أصبح نائباً لمحافظ بنك السودان، ثم وزيراً للمالية، وأكسبته هذه الفترة الطويلة في القطاع الاقتصادي على هذا النحو معرفة عميقة بالاقتصاد وخباياه حيث يحاول الآن في منصبه كوزير للمالية معالجة كثير من التشوهات بطريقة فعّالة وواقعيّة.

ضعف القدرات والمرتبات

يتهم البعض بدر الدين محمود بضعف القدرات ويعزون كثير امن الفشل الاقتصادي لقدرات الرجل الذي يرون أنه مصرفي ماهر في السياسة النقدية ولكن قد يجد صعوبة بشأن السياسات النقدية. لكن مقربين من الرجل يرون أن من يقولون ذلك لا يعرفون بدر الدين معرفة دقيقة، فهو بجانب خلفيته النظرية مارس الجوانب الاقتصادية بصورة عملية، وهذا يُمكن ان يكون واضحا في تنوع الخبرة الموجود لديه. فهو درس من ناحية مالية عامة ويعرف كل الجوانب النظرية فيها، ومارس عملا في مجال المصارف وفي مجال البزنس بصورة مباشرة وعملية. ولدى بدر الدين خلفية مصرفية في الصيرفة التجارية وخلفية مصرفية في صيرفة البنك المركزي وجاء للوزارة من جانب المالية العامة وهذا أدى لذخيرة من المعارف والتجارب التي جعلته يتعامل مع الأشياء بطريقة أقرب للواقعية والعملية.
وعلمت (الرأي العام) أن وزير المالية يتقاضى راتباً قدره عشرة آلاف وستمائة جنيه بعد الاستقطاعات، وقال مرة ممازحاً أحد الصحفيين إن راتبه يتقاضاه كاتب عمود عندكم في الصحافة، مع أني أكتب في اليوم أكثر من خمسين عمودا. وأشار إلى أنه لم يطلب من الدولة أن توفر له منزلاً فهو يسكن في بيته بضاحية شمبات. وتابع في حواره مع (الرأي العام) الذي تناول العام في حياته وشيئاً من الخاص: (أنا في كثير من الأحيان أشتري حاجياتي بنفسي، وهناك جزء من احتياجاتي أنتجها بنفسي كاللبن واللحمة وجزء من الخضار أنتجه من مزرعتي، والأُسر في السابق كانت منتجة لكن هذه الحكاية تراجعت الآن).

سنة واحدة تكفي

منصب وزير المالية الذي يجلس عليه الوزير بدر الدين محمود عباس هو في الغالب أقصى ما يطمح إليه كثير من خريجي كلية الاقتصاد – في أيام الدراسة الأقل، فهو يحدث تطوراً في شخصية من يتقلده وإضافة نوعية في سيرته الذاتية، بيد أن ذات المنصب هو الأكثر عُرضةً للنقد والهجوم لجهة ارتباطه بمعاش الناس وقفة الملاح. فهو بحكم أنه الشخص الجالس في موقع المسؤولية في المالية العامة أو في الاقتصاد ينظر إليه البعض باعتباره جزءاً من المعاناة التي يعيشها الناس.
وعلى خلفية ذلك ربما، أعلن بدر الدين استعداده للتنازل منذ مطلع العام الحالي لأيِّ شخص يريد منصب الوزير، وقال في معرض سؤال وجّهته له عما إذا كان يشعر بأن كرسي وزير المالية غير مريح، ما يلي: (هو كرسي مسؤولياته كبيرة وجسيمة، وهناك أمانة كبيرة مُلقاة على عاتق الشخص الذي يتقلد هذا الموقع، وتنعدم فيه أى مساحة زمنية خاصة تمكنك من القيام بواجباتك الأخرى. فهو مؤكد موقع ما ساهل والمسؤولية فيه صعبة لذلك أنا أرى أن وزير المالية في السودان المفروض أنه لا يقعد أكثر من سنة لأن الضغوط الموجودة في وزارة المالية مختلفة عن الضغوط في أي موقع آخر والمسؤوليات أكبر).

فتح الرحمن شبارقة
الراي العام


‫3 تعليقات

  1. كلام فلسفي مامنو فايدة… وليه يصرف مرتب عشرة الف والموظفين الحكوميين مرتباتم مابتكفي حق الايجار…لو ماخفض الصرف الحكومي والرواتب الكبيرة للوزراءوالمناصب الكتيرة دي مافي فايدة …

    1. يعني انت صدقت راتبه عشرة الف ي ابو محمد عشرة دي ولا مصاريف واحدة من بناته أو عياله

  2. طبعا” توقيع الوزير الهمام موجود كالعلم في قضية الاقطان عندما أرسى العطاء على شركة لم تسجل بعد و طلب من بنك التنمية الاسلامي بجدة تحويل مبلغ القرض الى حساب الشركة مباشرة و القرض يدفع أصله و فائدته المواطن السوداني .

    و يذكر ان تلك هي القضية الوحيدة التي تدخل فيها رئيس الجمهورية و طالب باستمرار التحري و عدم حفظ البلاغ و بالمناسبة القضية الآن في عامها الرابع و ستدخل الخامس قريبا” !! .
    تكبير ….