حوارات ولقاءات

الكابلي: ابتعد الناس عن التأمل كقيمة وأصبح التحصيل عن طريق الإفادة السريعة ونادراً ما نجد سياسياً يحمل صفات الفنان


السودان بهذا التعدد والتراكم الهائل للتاريخ يمكن أن يكون رمزاً واضحاً للوحدة
دائماً ما أصف سيدنا عمر بن الخطاب “رضوان الله عليه” بأنه مثال للسياسي المبدع
الفن يحتاج لمن يدرك قيمته ونادراً ما نجد سياسياً يحمل صفات الفنان
ابتعد الناس عن التأمل كقيمة وأصبح التحصيل عن طريق الإفادة السريعة

“كابلي” عندما يذكر اسم هذا الفنان من الوهلة الأولى تقفز إلى ذهنك صور متعددة لمدن عريقة مثل مدينة أم درمان ومروي وكسلا وسواكن وصور متعددة لقمم وجبال مثل جبل مرة وجبل البركل وجبال التاكا وجبال الأماتونج، وكأنما هذه الجبال وتلك المدن مرادف موضوعي لعظمة هذا الهرم الغنائي الكبير وفنه وإبداعاته.

هل لأن هذا العملاق “عبد الكريم الكابلي” يعد حالة فنية فريدة ومن الصعب تكرارها، أم لأن أعماله الإبداعية الغنائية بكل عمقها تمثل حالة مستعصية على الذوبان والنسيان وغير قابلة للتماثل والتكرار؟ حتى الآن لم أستطع أن أعرف أين يكمن سر هذا الفنان!.. هل في إحساسه المختلف بفنه أم في بساطته التي لم يتخل عنها يوماً أم في روح الشباب التي تميزه؟!.. إننا في النهاية أمام فنان وإنسان لا نملك إلا أن نحترمه ونحبه إلى مالا نهاية.
“كابلي”.. في كل مرة أجلس إليه يبهرني بصوته المموسق الذي تخرج منه الكلمات ممزوجة بالألحان.. ولذا عندما أحاوره أو أجاذبه الحديث تجدني في قمة الطرب والتشوق.. هذا آخر حوار أجريته معه بعد عودته من رحلة سابقة إلى “الولايات الأمريكية” التي يوجد بها الآن، وهو حوار متجدد نعيد نشره لأهميته ونحن نعايش الحوار الوطني ولما يحتويه من رؤى عميقة عن الوحدة والوطنية الإحساس بالانتماء والحفاظ على هويتنا السودانية، بالإضافة إلى قراءة فاحصة لأحوال وأوضاع الفن بصورة عامة

{ في البداية قلت له لماذا كل هذا الغياب؟
_ كنت خارج البلاد في زيارة ورحلة طويلة إلى “الولايات المتحدة” وأمضيت هناك زهاء الستة أشهر، وأسعدني حظي أن أكتسب فيها معارف وعلاقات جديدة، وأيضاً كانت فرصة طيبة لإقامة عدد من الحفلات للجاليات السودانية المنتشرة في جميع الولايات هناك، وأيضاً خلال وجودي هناك شاركت في عدد من المناسبات والفعاليات الثقافية والأدبية والعلمية وقدمت عدداً من المحاضرات.. حقاً صدق من أطلق عليها بلاد العالم الجديد.

{ ما هو الشيء الذي لفت انتباهك خلال وجودك في أمريكا؟
_ المرة الأولى التي زرت فيها أمريكا كانت عام 1974م وكنت برفقة صفوة من كبار رجال الفن والإبداع بقيادة الأستاذ العميد “أحمد المصطفى” والفنان العظيم “عبد العزيز محمد داؤود” والموسيقار “برعي محمد دفع الله” و”عبد الله عربي”.
في كل مرة أزور فيها هذه البلاد يدهشني تقدمها ويبهرني تحضرها، وأمريكا من الداخل تختلف تماماً من رؤيتها الخارجية التي رسخت في أذهان كل الناس.
ومن الأشياء التي ظلت على الدوام تلفت انتباهي وتثير إعجابي هو الاهتمام والتقدير والاحترام والقيمة التي يجدها الإنسان هناك.
والحق أقول لقد تملكتني الحيرة وانهمرت الدموع من عيني وأنا أراقب على الطريق مشهد (بص) يتوقف في إحدى المحطات ليقل المعاقين، وتابعت حركة هذا البص وهو ينحني آلياً ويميل كلياً لتخرج منه رافعة أخذت هذا المعاق برفق ولطف إلى داخل البص وبكل التحوطات التي تؤمن سلامته، حقاً كان مشهداً مؤثراً للغاية يبين قمة التعامل والاحترام والاهتمام التي يجدها الإنسان هناك.
ومن الأشياء المحزنة التي لاحظتها خلال هذه الزيارة هي التفرقة والانقسامات التي يعيشها السودانيون الذين يوجدون هناك، وخلال لقائي بهم شعرت بشيء من الحساسيات، وظللت خلال المحاضرات والحفلات التي أقمتها هناك أدعو كل السودانيين إلى التسامح والتوحد في كيان واحد حتى تسهل عملية تواصلهم مع الوطن وبقية أنحاء العالم، وأتمنى إذا شاء الله لنا العودة إلى هناك أن أجدهم قد توحدوا في كيان واحد.

{ بمناسبة دعوتك لتوحيد السودانيين هناك وبصفتك باحثاً في مجال التراث.. هل تعتقد بأن السودان بكل أشكال وألوان التعدد وفي ظل الانقسامات والصراعات هل يمكن أن يبقى موحداً؟
_ في العام 1960م بمدرسة المؤتمر الثانوية وفي عهد مديرها أستاذ الأجيال “الطيب شبيكة” أذكر أنني قدمت محاضرة تناولت فيها أمر التعددية وأهمية الإحساس بالانتماء، وكيف نحافظ على هويتنا وتماسكنا رغم التعدد والتنوع الذي نعيشه في كل شيء تنوع وتعدد في اللون وفي العرق وفي الدين والجنس والقبيلة في الجغرافيا والمناخ.
وأعتقد أن السودان بهذا التعدد وبهذا التراكم الهائل للتاريخ الضارب في عمق الزمن يمكن أن يكون رمزاً واضحاً وضخماً للوحدة.

{ إذن كيف يمكن أن نصل إلى التوحد الذي ظللت تدعو له منذ 1960م؟
_ بالطبع الجانب السياسي هو الجانب المهم في تحقيق هذا الحلم، ولكن كيف يتسنى للنظام السياسي تحقيق هذه الوحدة، وأعتقد أنه لن يتم ذلك إلا من خلال الفنون، ويمكن أن نستغل قوة الكلمة للمطالبة بتحقيق العدالة والحرية والأمن والمحبة وتحقيق التفاهم والرخاء لكل الناس، ويمكن أن نستغل قوة الكلمة لمحاربة التطرف ونبذ التفرقة والصراعات، وندعو إلى قيم التسامح والإخاء والاعتدال الديني.
وأنا واثق جداً بأن الفن بكل أشكاله قادر على أن ينجح في تحقيق ما أخفقت فيه السياسة. يجمع شمل الفرقاء من أبناء الوطن الواحد لأن الفنون باختصار هي التي تخاطب وجدان الإنسان.. فالسياسة لابد أن تستعين بأهل الفن والإبداع لبلوغ غايتها.
وتجدني دائماً ما استشهد في حديثي عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الفنون بمقولة (يصنع الفنان الثورة ويغتالها السياسي)، مثلاً الموسيقار العالمي “بتهوفن” كان يرى أن الموسيقى هي الحرية واللحظة التي تقدم فيها عمل موسيقي تنطلق.

{ ملاحظ من خلال حديثك أنك متعصب جداً للفنون؟
_ رد بنبرة حادة.. أنا لا أتعصب للفنون وفي مناخي الفكري لا توجد كلمة تعصب هذه، وفي حياتي لم أتعصب لا للفن ولا لغيره، ولكن من خلال التأمل في الحياة إذا ما تعمقت في أي ملمح من ملامح التطور والنهضة في هذا العالم الواسع الشاسع سوف تجد وراء كل إنجاز وإعجاز فناناً كبيراً.

{ كأنك تريد أن تقول إن للفنان أدوات لا تتوفر لدى السياسي؟
_ نعم وبكل تأكيد.. أدوات الفنان لا تتيسر للسياسي لأن الفنان لديه الخيال والحس المرهف وملكة الاستثمار ونادراً ما نجد سياسياً يحمل صفات الفنان.
وبالنسبة لي دائماً ما أصف سيدنا عمر بن الخطاب “رضوان الله عليه” بأنه المثال للسياسي المبدع، وإبداع سيدنا عمر “عليه رضوان الله” يظهر في رهافة الحس والإحساس بقيمة العدالة والتسامح والإدراك بأن الفرد امتداد للآخرين، وأن الإنسان يرى في نفسه مرآة أخيه.

{ أستاذ “كابلي” الآن نأتي إلى الأوضاع الفنية بالبلاد والانحدار والتدني في كل مستويات الفنون.. ماذا تقول عنه؟
_ أولاً أحب أن أؤكد أن الانحدار والتدني حالة عامة، فالقضية تتصل بالحياة نفسها، فهناك تدنٍ واضح في كل أوجه الحياة التعليم لم يعد كالسابق والطالب الآن لم يجد مثل الطالب زمان ولا المعلم الآن يوازي معلم الأمس وحتى الوظيفة بمختلف أشكالها حدثت فيها تغيرات وانحسار، وتنطبق هذه المتغيرات على الرياضة والإعلام وغيرها من اقطاعات، وكل المجتمع حدثت فيه متغيرات ولم يعد هناك ترابطاً وتواصلاً وكل ذلك اعزيه إلى متغيرات الحياة وإيقاعها المتسارع، فالحياة أصبحت لهاثاً وألماً ولم يعد هناك متسعاً للـتأمل.
ونحن مثلاً عندما تفتحت مداركنا على الحياة شأننا شأن البلاد الأخرى، كانت هناك فرصة للتأمل وكانت مصادرنا التي كنا نستقي منها في أكثريتها مصادر القراءة، ودائماً ما تتيح للإنسان فرصة التأمل، والتأمل يقود للتجويد والتحسين وللإبداع القويم.
الآن ابتعد الناس عن التأمل كقيمة، وأصبح التحصيل عن طريق الإفادة السريعة والمعلومة لا تجد فرصة للهضم.

وبعد ذلك يأتي الجانب الأهم الإبداع في دول العالم الثالث من الذي يسيطر عليه ومن الذي يهيمن على المنابر والأجهزة الإعلامية سواء أكانت صحفاً أو أجهزة تلفازاً ومحطات إذاعية، وكل الأجهزة التي يستقي منها المتلقي ألوان الفنون من يقف وراء تلك الأجهزة ومن يحرس بوابتها؟.

والسؤال الذي يطرح نفسه هل الذين يديرون هذه الأجهزة بحجم المسؤولية؟ بمعنى هل يدركون القيمة الحقيقية للسيطرة على هذه الأجهزة وهل لهم القدرة والكفاءة لإدارتها؟.
قضية الفن يا عزيزي وصديقي تحتاج في المكان الأول والأخير إلى من يدرك عميقاً رسالة الفنون في الحياة أدراك بمعنى حقيقي، والفن يحتاج لمن يدرك قيمته ويعرف كيف يديره بحيث يتحكم في وجدان الناس، وسبق أن تعرضت لهذه القضية في ندوة بصحيفة (الأيام) قبل سنوات خلت، وقلت إن الفن يتسم بالخطورة شأنه شأن كل أوجه الحياة، فهناك فن خير نخاطب به الوجدان بصورة سليمة ومؤثرة إيجابياً، وقديماً قالوا إن أكبر قيمة للفن مقدرته على الإقناع، وهنا تكمن خطورة الفن لأنه إذا انحرف من جانب المثاليات وهو الجانب الذي يرتقي بمشاعر الآخرين، إذا انحرف الفن عن هذا الجانب تظهر خطورته وسوف يتحول إلى أداء عكسية تساهم في فساد الذوق العام.

حاوره/ عامر باشاب
صحيفة المجهر السياسي