الصادق الرزيقي

عدوتان مقربتان!!


> لا يمكن فصم عُرى العلاقة ما بين الصحافة والسياسة، بحكم الواقع، فالصحافة تلامس السياسة وتتأثر بها أينما وكيفما كانت، والسياسة لا يمكنها العيش من دون الصحافة. وصدق من قال إن الصحافة هي أوكسجين الديمقراطية، ولكن عندما تختل العلاقة فإن خطب ما، وخلل لابد أن يكون قد حدث، إما أن تكون السياسة قد تنكبت الطريق أو تكون الصحافة قد وقعت في مزلق لا مفر منه، فلابد من أن تتعيش السياسة والصحافة دون أن تطغى إحداهما على الأخرى ، فالسياسة يمكنها أن تبطش وتمد يدها وتلطم وتأخذ بتلابيب الصحافة وتخنقها حتى تكتم أنفاسها، وذات الشيء يمكن للصحافة أن تفعله إن كانت ذات وخزات سامة تطعن كما العوسج الحاد.
> لا تستوي العلاقة بين الصحافة والسياسة في أي مكان في الدنيا، إلا حين يحدد القانون بصرامته ومحدداته حدود العلاقة ويضبط ما بينها ويشذِّب هنا ويحسِّن هناك، ولم تصل دول كثيرة في العالم إلى الاستقرار والتداول السلمي للسلطة وتنتظم الممارسة الصحافية وترسخ وتمد جذورها قوية إلى عمق المجتمع والدولة والنظام، إلا بعد سنوات من التجارب المريرة تسيدها التباعد والتخاصم والتقارب والتراحم، فأعرق الديمقراطيات في العالم والبلدان المطمئنة والآمنة التي لا تعاني من مشكلات مركبة وعميقة، واجهت صنوفاً من العنت والشقاق والتنافر ما بين صحافتها وأدوات الحكم والسياسة، فأدوات الرأي العام تصبح خطيرة وذات أثر فعَّال على المجتمع حين تجد نفسها في الهواء الطلق بلا حدود أو سقف، أو حين تفشل السياسة في تجسيد ما يقاربها ويدفئ العلاقة بينها وبين الصحافة والصحافيين، وليس كل ما ينطلق منه الصحافيون صحيح كما أنه ليس كل ما تفعله السياسة لا يأتيه الباطل من بين يديه أو خلفه.
> عدودتان مقربتان، أو قل بالأحرى، صديقتان لدودتان، لذلك لن ترضى السياسة عن الصحافة ولو تعلقت الأخيرة بأستار السياسة، ولن تقبل الصحافة أيضاً أن تكون وصيفة وجارية في قصور السياسة. فإذن البحث عن المشتركات والتفاهمات دون أن تفقد الصحافة خصائصها ودورها، ودون أن تتأذى السياسة من ألسنة الصحافة ونيرانها، هي المعادلة المفقودة اليوم في مشهدنا السياسي والصحافي في السودان. فالحرية التي تنعم بها صحافتنا وبدأت تستثمرها الأحزاب والقوى السياسية بانتزاعها الحريات العامة التي تنتظم العمل السياسي وفق الحوار الوطني الجاري حالياً، هي حرية يمكن أن تتمدد ويكون لها دور فعال في صياغة المستقبل الجديد، ويمكن أن تنكمش وتتراجع بسبب الممارسات الخاطئة مخلفة وراءها عاهة سياسية لا تزول.
> أما لماذا صارت الصحافة مخيفة ومفزعة ومقلقة؟.. فلأنها بالفعل وعلى أرض الواقع ملأت الفراغ الذي خلفته الأحزاب السياسية، وصار لها صوت أقوى وتأثير أبلغ من الأحزاب المنشطرة والمتناثرة كقطع الفسيفساء، فضعف الأحزاب وقلة حيلتها وهوانها على الناس، وعدم قدرتها على المبادرة والتواصل المستمر مع الجماهير، وغياب نشاطها وخبو نارها والضباب الذي يغطي مواقفها، أتاح فرصة لا تقدر بثمن للصحافة لتوجيه الرأي العام وصناعة المواقف السياسية بدلاً عن التنظيمات والأحزاب..
> مع هذا كله لدينا رأي عام وجمهور من المتلقين أوعى بكثير مما نظن، فعلى الحكومة والمشتغلين بالسياسة أن يفهموا جيداً وهم سادة العارفين، أنه لا توجد صحيفة في الدنيا قادرة على إسقاط حكومة، وليس صحيحاً بالمرة ما قاله السيد الصادق المهدي بعد سقوط الديمقراطية الثالثة مضرجة بدم الأحزاب القاني، وهو يريد تطمين نفسه وإلقاء التهمة على الآخرين: «لقد أسقطت حكمي الصحافة» ..!!
> ليس للصحافة أنياب ولا نصال ولا بنادق ولا حتى مخالب أو أظافر، هي فقط أحرف وأحبار، قد يكون لها قوة هذه جميعاً.. لكنها قوة ناعمة، فمن يحسن التعامل معها تقابله بأحسن منه.. وتعطيه بلا مقابل ..! ويمكنها أن تموت تحت صليل سيوف السياسة، لكن نبضها وروحها باقية في برزخها.. لتبعث حية كطائر الفينيق..!