تحقيقات وتقارير

الشراء والتعاقد .. أبواب مشرعة للتجاوزات “الكوميشنات”.. هذا الفساد لا يمكن الوصول إليه حالياً


“الكوميشن” أو العمولة، من المصطلحات المستحدثة التي لم تكن مألوفة من قبل خاصة على صعيد المعاملات الحكومية التجارية والمالية، وإذا كان وزير المالية السابق علي محمود قد أكد وجود فساد لا يمكن الوصول إليه، فإن قوله هذا ينسحب على العمولة التي ارتبطت بالتعاقدات والشراء والعطاءات الحكومية والتي بشهادة المراجع العام ولأربعة أعوام متتالية تشوبها الكثير من المخالفات التي ترقى لدرجة شبهة الفساد، وما يجسد هذه الحقيقة الطرفة المتداولة التي تشير الى أن موظفاً تم اتهامه بالثراء من المال العام فرد قائلاً “علي الطلاق ما حصل سرقت من المال العام، لكن قروشي عملتها من الكوميشنات ساااااااي”.

تحقيق:صديق رمضان

ممارسة شائعة

وإذا كان وزير المالية السابق علي محمود قد أكد وجود فساد لا يمكن الوصول إليه، فقد أشار أيضاً الى ممارسات سالبة تصاحب العطاءات الحكومية، وضرب مثلاً بفساد صاحب ترسية عطاء لأحد النافذين، ومصطلح الكوميشنات أو العمولة بات رائجاً بعد أن تحول الى ممارسة شائعة في المشتروات والعطاءات الحكومية، ويتمثل في أن يستفيد موظف تم تكليفه بعملية شراء من فرق السعر أو حافز أو عطية من التاجر، كما أنها تحدث في العطاءات من قبل البعض بعدم طرح المشروع في مناقصة وتوجيهه نحو أحدهم، وكذلك تحدث عبر التلاعب في العطاءات الحكومية، وكذلك تبرز العمولات في تخلص الجهات الحكومية عن فوائض عبر مزادات علنية أو غيرها، أما أخطر أنواع العمولات غير المرئية تلك التي يرتكبها مسؤولون في الدولة في ملف الاستثمار، حيث تعارف على أن المسؤول الذي يأتي بمستثمر أجنبي له نسبة من المبلغ، ورغم عدم وجود دليل مادي يؤكد هذا الأمر بالإضافة إلى عدم وجود قانون صريح ينص على منح المسؤول عمولة في حالة استقطابه لمستثمر، إلا أن الحديث عن تلقي مسؤولين لعمولات من المستثمرين ظل رائجاً خاصة في الوسائط الإلكترونية والتي أشارت بعضها الى قصة مسؤول كان جالساً مع مستثمرين أجانب، وسألهم قائلاً” أهم حاجة حقي كم”.

لوائح وقوانين ولكن

وقبل استعراض تقارير المراجع العام ورأي الخبراء في هذا الصدد لابد من الإشارة إلى قانون لائحة الشراء والتعاقد والتخلص من الفائض لسنة 2011 قد نص على عدد من اللوائح أبرزها إجراء مراقبة ومتابعة المشتريات أثناء المناقصة، مع وجود اعتماد مالي يغطي قيمة المشتروات، وإصدار أمر الشراء من رئيس الوحدة المباشر، بالإضافة الى تشكيل لجنة لهذا الغرض، أعداد كراسة العطاء وفي النموذج المتعارف عليه، اتباع الإجراءات المنصوص عليها في المادة 18 ـ 5 ومراعاة المبادئ الواردة في القانون بمعنى أن تعمل الإدارة العامة على نشر المعلومات الخاصة بالمقاولين والموردين والاستشاريين والأسعار والمنشورات والموجهات الصادرة منها المتعلقة بالمشتريات، وشددت اللائحة على أجهزة الدولة بضرورة اتباع عدد من الطرق في عمليات الشراء والتعاقد منها المناقصة العامة والمحدودة وغيرها من قوانين حددها قانون الإجراءات المالية والمحاسبية لضبط عملية الشراء والبيع والمناقصات الحكومية.

قانون صارم ولكن

صدور قانون الإجراءات المالية والمحاسبية في العام 2011 اعتبرته وزارة المالية فتحاً غير مسبوق وراهنت على أنه سيكون كابحاً للكثير من الممارسات السالبة خاصة تلك المتعلقة بالشراء والتعاقد، ويومها أكدت الوزارة أن نتائج تطبيق لائحة قانون الشراء والتعاقد لسنة 2011م ستنعكس على أداء موازنة الدولة من خلال تنظيم وترشيد الشراء الحكومي وفقاً لاستراتيجيات وسياسات شرائية بما يتسق مع الخطط والسياسات العامة للدولة على أسس تأخذ في الاعتبار الشفافية والعدالة، لضمان المصداقية لكافة العمليات الشرائية والتخلص من الفائض، ويومها أكد مديرالإدارة العامة للشراء والتخلص من الفائض أنهم يطمحون في ترفيعها الى سلطة مستقلة تتطابق مع الاستقلالية التي منحت لقانون الشراء ولائحته لتتبع مباشرة إما لوزير المالية والاقتصاد الوطني أو ما يعادله من سلطات دستورية. وأضاف أن متطلبات تأسيس لجنة الاستئناف المنصوص عليها بالقانون تفترض الاستقلالية اللازمة للسلطة المقترحة للتعامل عبر السلطات القضائية للفصل في الخلافات التي قد تطرأ دون الرجوع لأي قرارات إدارية أو سياسية بما يفرض حتمية عملية الترفيع المطلوب للإدارة الحالية الى سلطة مستقلة بما يسهم في تحقيق عدد من الأهداف منها توفير كادر للعاملين في الشراء والتعاقد بما يجعل له ميزة ثانوية تميزهم عن العاملين بالخدمة العامة مثل العاملين بديوان المراجع العام، وتوفير كوادر فنية محترفة عن طريق التدريب والتأهيل المستمر في عمليات الشراء والتعاقد والتخلص من الفائض وإيجاد آلية لحماية هذه السلطة المقترحة من السلطات الإدارية والسياسية من أشخاص ومجموعات ضغط لحماية الاقتصاد القومي.

تحول حقيقي

وأوضح أن قانون الشراء والتعاقد لسنة 2010م أول قانون مستقل مما فرض إصدار أول لائحة مستقلة للشراء والتعاقد والتخلص من الفائض لسنة 2011م في تاريخ السودان لتنظيم الشراء الحكومي باستقلالها بذاتها عن مختلف الإجراءات المالية والإدارية والقانونية السائدة بالبلاد حالياً. وأكد أن صدور اللائحة يعتبر إنجازاً تاريخياً للسودان بالذات في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد والتي لها علاقة ديناميكية بالإنتاج الاقتصادي خاصة فيما يتعلق بالإيرادات والدخل القومي وترشيد الإنفاق العام الجاري والتنموي بالقطاعات الاقتصادية غير النفطية، وأشار إلى أن مشكلة العجز المستديم في الموازنة العامة ليست بسبب عدم توفر الموارد وإنما بسبب عدم حسن إدارة الموارد في تنفيذ الموازنة نظراً لعدم توحيد إجراءات وخطوات تنفيذ العمليات الشرائية للدولة مما ترتب عليه استدامة العجز بالموازنة العامة، وقال إن من أسباب استدامة عجز الموازنة عدم توفر المهنية المتخصصة في تنفيذ الموازنة وعدم الانضباط الإداري وعدم الوعي بأهمية القانون واللائحة في كافة الإجراءات والخطوات اللازمة في تنفيذ عمليات الشراء المختلفة في إطار السياسات المقررة وأكد أن كل هذه المشاكل يتم حلها بالتطبيق الدقيق للقانون ولائحته بالتعاون اللصيق مع الجهات ذات الصلة.

الممارسة تهزم القانون

كان ذلك ما يتعلق بلائحة الشراء والتعاقدات التي اعتبرتها الدولة قبل خمسة أعوام فتحاً حقيقياً وقانوناً رادعاً للممارسات السالبة، ولكن كما هو متعارف عليه في السودان فإن الممارسة على الأرض دائماً ما تهزم القوانين واللوائح، وهذا ما ظل يكشف عنه المراجع العام لأربعة أعوام متتالية، وظل يشير إلى ارتكاب مخالفات في الوحدات الحكومية للمادة 1/13من قانون الشراء والتعاقد بقيامها بكافة الإجراءات قبل موافقة إدارة الشراء بجانب قيام أخرى بالشراء مباشرة، وقطع ببطء إجراءات الشراء والتعاقد مما نتج عنه زيادة تكلفة شراء السلع، وأوصى التقرير بالالتزام بقانون لائحة الشراء ومباشرة التعاقد بفعالية وكفاءة لتفادي زيادة التكاليف وإلزام كافة الوحدات بأن تتم كل مراحل الشراء والتعاقد بإشراف إدارة الشراء بالوزارة، وقال التقرير “هناك مخالفة للمادة 7من لائحة الشراء والتعاقد لعام 2011 والتي تنص على إصدار التصديقات اللازمة بعد وقوف إدارة الشراء والتعاقد بوزارة المالية على إجراءات فرز العطاءات وعدم إشراك الوحدات في عطاءاتها، وشدد على أن عدم صياغة بعض عقود شراء السلع والخدمات عبر الجهات القانونية مما لا يضمن حقوق الدولة، إضافة إلى فرض رسم إضافي وغير مقنن مخالفاً لائحة الإجراءات المالية والمحاسبية لسنة 2011 تنص على عدم فرض رسم بدون سند قانوني.

مخالفات وتجاوزات

ورأى المراجع العام ولأربعة أعوام متتالية آخرها قبل شهر فقط أن توريد عائد البيع لحساب الأمانات بدلاً من الإيرادات مخالف للائحة بجانب مخالفة شروط المزاد الواردة بإيصال تأمين دخول المزاد والتي تنص على مصادرة التأمين في حالة الفشل للمشتري في سداد القيمة وعدم مواكبة سقوفات المناقصات العامة والمحدودة للشراء ومعالجة الممارسات التي يتم تجاوزها، وكشف عن مراجعة التعاقدات وشراء السلع والخدمات والتخلص من الفائض بعدد من الوحدات الحكومية، وكشف عن مخالفات خطيرة لقانون الشراء والتخلص من الفائض لسنة 2010، من بينها عدم وجود سقوفات للمناقصات العامة بجانب عدم توريد عائدات المبيعات للمالية، وأكد التقرير على أن عدم إشراك المالية في العطاءات لا يضمن الشفافية والنزاهة، ومنع المراجع دفع أي مستحقات للجهات التي يتم الشراء منها إلا بعد تقديم الفواتير النهائية.

نسبة متواضعة

وأوضح تقرير اللجان المشتركة بالبرلمان، ردًا على المراجع العام أن نسبة مشاركة وزارة المالية في إجراءات الشراء والتعاقد تعادل 44% على مستوى الحكم القومي للعام 2011م مقارنة بـ 48% لعام 2010م، واعتبر التقرير أن هذا مؤشر لعدم استجابة الوحدات الحكومية القومية لموجهات الشراء والتعاقد في عطاءاتها، وألزم التقرير المراجعة لمعالجة هذا الخلل وإلزام كل الوحدات الحكومية بمشاركة وزارة المالية في إجراءات الشراء، وأكدت اللجان أن إجراءات العطاءات العامة يشوبها كثير من المخالفات والتجاوزات التي أصبحت محلاً للنقد والشكوى من أصحاب الحق والمصلحة، وأكد التقرير أن عدم إشراك المالية في العطاءات لا يضمن الشفافية والنزاهة، ومنع المراجع دفع أي مستحقات للجهات التي يتم الشراء منها إلا بعد تقديم الفواتير النهائية.

مسؤولية ومخالفات

وفي حديث سابق أشار الخبير الاقتصادي عادل عبد العزيز إلى مخالفات وخلل في النواحي المالية، مبيناً أن مسؤولية المراجع العام تتمثل في تأكده من كل الإجراءات المالية والمحاسبية والقوانين الأخرى المنظمة للعمل الإداري، مشيرًا إلى أن هنالك نوعاً من المخالفات يقوم المراجع أو ما يمثله باستعراضها أمام مدير الوحدة أو مجلس الإدارة لمؤسسة أو هيئة أو شركة حكومية لإجراء المعالجات اللازمة كاسترداد المديونيات أو إلغاء بعض التعاقدات، مبيناً عن حالات أخرى يوجه المراجع باتخاذ إجراءات قانونية بشأنها، وأنه في هذه الحالة يجب على رئيس الوحدة المعنية تحويل الملف لنيابة الأموال العامة أو المختصة، مشيرًا إلى أن المراجع العام يستند في مراجعته على الفحص الذي يقوم به فريق المراجعة أو على التقارير المرفوعة من إدارات المراجعة الداخلية والجهات المختصة .

صلاحيات واسعة

ويوضح الخبير الاقتصادي عادل عبد العزيز أن هناك قوانين لبعض المؤسسات والهيئات تعطي لمديري هذه المؤسسات صلاحيات مالية أو إدارية كتعيين الخبراء، وأنها غالباً ما تكون غير متوافقة مع قانون الخدمة المدنية العامة، أو منشورات مجلس الوزراء المنظمة لهذه الموضوعات، وهنا يجب أن تكون المعالجة في إجراء اللازم نحو مواءمة هذه القوانين مع القوانين العامة، وتحجيم سلطات مديري المؤسسات والهيئات ،” بحيث لا تحدث تجاوزات تحت مظلة هذه القوانين”.

خلل واضح

من ناحيته يشير أستاذ الاقتصاد بجامعة النيلين الدكتور حسن بشير إلى أن الخلل يوجد في نظام الخدمة المدنية والمؤسسية والنظم الحاكمة للأداء المالي والجوانب المحاسبية في الدولة، مؤكداً أن تقرير المراجع العام أصبح إجراء روتينياً متفقاً عليه ينتهي بالإعلان عنه ونشره، دون أن يكون هنالك مردوداً حقيقياً حول الجوانب المتعلقة بمعالجة الفساد، أو استرداد الأموال المتسربة خارج قنواتها، أو تحقيق الولاية على المال العام للجهات منوط بها ذلك، وزاد: وبالتالي هذه المسألة تحتاج إلى معالجة مؤسسية خاصة فيما يتعلق بإنشاء جهاز مستقل لمحاسبة الفساد، موضحاً أن هذا الموضوع يرتبط بهيكلة وبناء الدولة نفسها، ولا يتوقف بما توصل إليه المراجع العام بناء على السلطات الممنوحة لديه الآن، وأردف”وعليه كل ما يتوصل إليه المراجع العام عبارة عن مؤشر بسيط في الاتجاه العام الذي تسير عليه الدولة.

الشراء والتعاقد

ويرى الخبير الاقتصادي دكتور محمد الناير أنه بالنسبة للشراء والتعاقد ووفقاً للقانون إدارة الشراء والتعاقد، يكون لوزارة المالية ممثل في كل العطاءات الخاصة بالمؤسسات والوحدات الحكومية على مستوى المركز، والتي تفوق الـ200 وحدة، مشيراً إلى أن وجود ممثل لإدارة الشراء والتعاقد يساعد كثيراً في اتباع الإجراءات والضوابط الخاصة بالشراء والتعاقد، وذلك من خلال طرح الإعلان عن العطاءات، واستلام المظاريف وفتحها أمام الجهات المتقدمة، موضحاً أن اللجنة المختصة ممثلة في المستشار القانوني، وممثل للنائب العام وإدارة المراجعة الداخلية للوحدة المعنية، إضافة إلى ممثل الوحدة الحسابية للإدارة المالية، مبيناً أن تراجع نسبة مشاركة وزارة المالية يعتبر مؤشرًا غير جيد، موضحاً أنه من المفترض أن تكون المشاركة بنسبة 100% في العطاءات التي تزيد عن السقف المحدد للوحدات، وأن تكون عملية الشراء مباشرة، ويرى الناير أن وجود مندوب من وزارة المالية متمثل في إدارة الشراء والتعاقد، يؤكد على اتباع الضوابط السليمة في عملية الشراء، وقال «هذا أمر جيد، لكن لابد من إسراع خطى الإجراءات»، مشدداً على إيفاء وزارة المالية بسداد استحقاقات المشروعات التي تم التعاقد عليها.

فساد صريح

ويرى الاقتصادي عثمان محمد السيد أن أوجه الفساد باتت متعددة وأن بعضها لا يمكن الوصول إليه، وقال إن المخالفات التي تصاحب عمليات التعاقد والشراء في عدد من الوحدات الحكومية تحدث نتيجة لعدم المراقبة وتطبيق اللائحة المالية والمحاسبية للعام 2011، ويلفت الى أن شيوع ممارسة العمولات أمر طبيعي في ظل أجواء الفساد التي تظلل سماء العديد من المؤسسات الحكومية، قاطعاً بعدم توقف المخالفات في ظل تساهل الدولة وعدم تبنيها برنامجاً حقيقياً وصارماً يكافح الفساد.

الصيحة