يوسف عبد المنان

هي السبب!!


سخر الأستاذ “محمد الفاتح أحمد” رئيس تحرير الأهرام اليوم من رؤيتي التي أثرتها أمام السيد وزير المالية في لقاء جمعنا بالوزير، وقال “محمد الفاتح” “جننتنا الحرب هي سبب تدهور الاقتصاد في كل مؤتمر ولقاء حتى أثبت إليك اليوم وزير المالية أن الحرب ليست سبباً في مشكلات اقتصاد البلاد وتأثيرها ضعيف جداً”، والأستاذ “محمد الفاتح” بوعيه السياسي وخبرته الصحافية التي تمتد لأكثر من ربع قرن من الزمان ذاق فيه حلاوة المهنة ومرارتها.. تقلباتها ما بين الحرية والقبضة السلطوية.. يدرك تماماً تأثير الحرب على الاقتصاد.. وعلى الاستقرار السياسي، وعلى الحريات العامة.. وعلى كل شيء.. ولكنه مثل أغلبية الفاعلين تنفيذياً وسياسياً واقتصادياً يهونون من شأن الحروب وتأثيرها على مستقبل البلاد.. بل تهديدها لوجود الدولة نفسها.. وإن كان وزير المالية من واقع الأرقام التي أمامه و(يداه) على النار لا يعتقد أن تأثير الحرب بالغ جداً على الوضع الاقتصادي، فقد استدرك الوزير بعد تقديم مرافعته القصيرة وهو على عجل من أمره بقوله (ماذا تفعل الدولة وقد فتحت أبواب الحوار لكل راغب في السلام ولم تغب عن أية جولة تفاوض مع حاملي السلاح، ولكنها ماذا تفعل إذا كان الطرف الآخر يرفض السلام)، هذا الكلام السياسي يمثل اعترافاً بثقل الواقع.. ورغم تبرير الوزير وقناعة الكثيرين بأن لا أثر للحرب على الاقتصاد.. إلا أنني سأظل أنحت على الصخر، وأردد في مسامع المسؤولين جهراً إن كان ذلك مباحاً أن إيقاف الحرب يجنب بلادنا مزالق ومهالك أودت بدولة كبيرة من قبل هي “الاتحاد السوفيتي” إلى مستنقع التفتيت وسقوط الإمبراطورية السوفيتية بكل جبروتها العسكري واقتصادها القوي.. وتماسك جبهتها الداخلية، ولكن حرب “أفغانستان” قد مزقتها لدويلات صغيرة، وقد تنبأ زعيم المجاهدين “عبد الله عزام” بمآلات ما حدث لـ”لاتحاد السوفيتي”.. وحتى بلادنا العزيزة لو لا حرب الجنوب التي تطاولت ورفضت النخب الشمالية في عناد وركوب رأس، الحلول التي طرحت منذ 1956م، وحتى آخر جولة تفاوض قبل “نيفاشا”، لما ذهب الجنوب اليوم.. وظل الساسة الشماليون يصغون دوماً للنصائح الخاطئة بأن الحملة الفلانية ستقضي على التمرد.. وأن الجولة العلانية ستشهد نهاية الحرب، وأن القبول بالفيدرالية جريمة في حق البلاد، ولا بد من نظام مركزي قوي يبسط سيطرته على الأطراف، وأن الحكم الذاتي الذي منحته اتفاقية 1972م، مدعاة للصراع و(تفلت) الجنوب من قبضة “الخرطوم”، ولا بد من إعمال سياسة (شغل) الجنوبيين بأنفسهم، وحينما طرحت الحركة الشعبية في أخريات أيام الحرب النظام الكونفدرالي، قالت “الخرطوم” دون ذلك – السماء أقرب – فانفصل “الجنوب” واحتفى البعض بانفصال الأيادي عن الجسد بنحر الذبائح وتوزيع الأعلام في (مهزلة) أطلق عليها تحية العلم الذي بات منقوصاً بدلالات الألوان.
وصدق ما حذر منه الرئيس “البشير” نفسه يوم أن قال أخشى أن ينفصل “الجنوب” ولا يتحقق السلام.. نعم اليوم الوضع في “دارفور” (أمنياً) أفضل حتى من سنوات ما قبل اندلاع التمرد في 2003م، وصحيح أن الوضع في جبال النوبة والنيل الأزرق تحت سيطرة الحكومة، ولكن في ظل الحرب يموت الأبرياء وتهدر الموارد.. ومن يده في النار يظل يطلق النداء ويبحث عن الاستقرار.. ودوافعنا في النحت على الصخر الصماء بعضها ذاتي جداً.. وبعضها موضوعي.. فالذاتي لأن أهلي يموتون وفي كل أسبوع نزف شهيداً.. وآخرهم الملازم “علي يونس” الأسبوع الماضي أحد فرسان الدعم السريع.. وديارنا ينعق فيها البوم وأطفال أبناء أخوتي وخؤولتي محرومون من الدرس والحبر والطبشور والكُتب.. وبنات أهلي يحترفن صناعة الشاي في طرقات “الخرطوم”.. فكيف لا أقف مع وقف الحرب.. والموضوعي أن الحكومة اعترفت بنفسها بأن للمناطق التي تحمل السلاح قضية وأنها تسعى لحل تلك القضية.. إذن القضايا لا تموت حتى لو وهنت الحركات وضعفت اليوم.. قد تقوى غداً.. وإذا كان هناك شخص واحد يحمل السلاح وهو في قمة جبل ما.. ينبغي حل مشكلته حتى لا ينضم إليه ثانٍ وثالث وحرب العصابات لا منتصر فيها.