د. ياسر محجوب الحسين

حكومة تحت وطأة التخبط والاضطراب


تحضرني أقوال جوزيف جوبلز -وزير إعلام أدولف هتلر، والناس في السودان يتابعون بإشفاق الدرك السحيق الذي تمرغت فيه العلاقة بين الصحافة والحكومة.. يقول جوبلز: “كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي”.. “أكذب حتى يصدقك الناس”.. “أعطني إعلاميين بلا ضميــر، أعطيك شعبــا بـلا وعي”.. أما هتلر نفسه بكل جبروته وبطشه كان يخشى الأقلام أكثر مما يخشى الهزيمة العسكرية في ساعات الوغى.
الأسبوع الماضي تراجعت الحكومة في الخرطوم عن نيتها رفع الدعم عن السلع الأساسية بعد ما كشف لها بالون الاختبار الذي أطلقه وزير المالية حجم المعارضة غير المسبوق لتلك النية السيئة التي تستهدف الشرائح الضعيفة والحق أنها ليست مجرد شرائح معدودة بل هي الغالبية العظمى من الشعب السوداني.. وقدمت الصحافة خدمة جليلة للحكومة حينما نقلت إليها نبض الشارع وأسدى لها كُتابها النصح الأمين.. لكن جزاء سمنار كان من نصيب الصحافة؛ فانتاب الحكومة غضب أهوج أطاح بالقليل المتبقى من وقارها.. وتوعد الرئيس البشير بتولي ملف الإعلام بنفسه منتقدا تعاطي الصحافة مع تصريحات وزير المالية.. في حين توقع الناس أن يعلن أنه سيتولى ملف الاقتصاد ومعاش الناس بنفسه.
سريعا تجاوبت السلطات الأمنية مع هذه الغضبة الـُمـضرية وأغلقت صحيفة التيار المستقلة، وفي اليوم التالي اعتقل رئيس تحريرها بمعية رئيس تحرير صحيفة الصيحة في ساعة واحدة وفي ذات السيارة التي شقت بهما سكون ليل الخرطوم المثقل بهموم المعاناة المعيشية لينتهي بهما المسير إلى نيابة أمن الدولة رغم أن هناك نيابة مختصة بقضايا الصحافة، لكن الأمر جلل رأت فيه الحكومة تهديدا للأمن.. المضحك حقا والمدهش كذلك والذي يدل على العجلة في تدبيج واختلاق الاتهامات أن التحقيق مع رئيس تحرير الصيحة تضمن اتهاما موجها لكاتبين في الصحيفة مع نية استدعائها لاحقا للمثول أمام نيابة أمن الدولة.. أحدهما هو فهمي هويدي!.. نعم فهمي هويدي الكاتب المعروف وهو أحد كتاب هذه الصحيفة الغراء.. والقصة رواها رئيس تحرير الصيحة أن الصحيفة درجت على نقل مقالات مختارة من الصحافة العربية وفي هذا الإطار أعادت نشر مقاله “حقيقة أزمة القضاء” للكاتب فهمي هويدي المنشور في هذه الصحيفة بتاريخ 14 ديسمبر الجاري.. وكيل النيابة عنّف رئيس التحرير لسماحه بنشر مقال ينتقد القضاء السوداني؟!.. بينما كان المقال ينتقد القضاء المصري.. وتوارى الوكيل المأمور بالتحقيق خجلا عندما اكتشف الحقيقة وسارع بالقول إن شكوى أمنية وصلته بهذا الخصوص بناءً على رصد صحفي قامت به إدارة الإعلام بجهاز الأمن.
وبدلا من تعترف الحكومة بتراجعها لصالح المواطنين ومن باب الرجوع للحق فضيلة، علقت فشلها على شماعة الصحافة باعتبارها تقولت على الوزير الذي تبرأ من قوله.. وفي ذات السياق سبحت الحكومة عكس تيار الصحافة، حينما انتقدت تدخل وزيرة دولة بوزارة العدل استخدمت سلطلتها للإفراج عن نجلها الذي ضبط في مخالفة قيل إنها عظيمة، مما اضطرها لتقديم استقالتها.. لكن صحفا بعينها موالية أبرزت أمس بالخط العريض رفض الرئيس لاستقالتها وأمرها بمواصلة عملها كالمعتاد “واللي مش عاجبو يشرب من البحر”.
وتابعت أخبار الحكومة في صحيفة واحدة ذات اليوم فهالني حجم التخبط والاضطراب؛ فهذا خبر يقول: “أمر الرئيس المشير عمر البشير أعضاء البرلمان بإمعان النظر والتمحيص في ميزانية العام 2016م للدولة”.. فإن كان برلمانا يمثل الشعب حقا فكيف يأمره الرئيس حتى لو كان أمرا إيجابيا؟!.. خبر آخر يقول: “منع رئيس البرلمان النواب من التصفيق داخل الجلسة للتعبير عن احتفائهم بحديث زملائهم أو ببيانات الوزراء”. وهذا دليل على الحرج الذي أصاب البرلمان جراء التندر الشعبي به على تصفيق أعضائه للوزراء بدلا من انتقادهم ولومهم على إخفاقاتهم. وخبر آخر يقول: “قال وزير التموين والتجارة الداخلية المصري خالد حنفي، إن السودان طلب رسمياً الاستعانة بالتجربة المصرية المتبعة حالياً في منظومتي توزيع الخبز والسلع التموينية بالكارت الذكي”. فالحال المعيشي تراجع حتى خرجت الحكومة تبحث عن خبرات خارجية في توزيع سلع أساسية دخلت في مرحلة الشح الشديد.
وخبر آخر في ذات الصحيفة الموالية يقول: “قررت السلطات الأردنية ترحيل نحو 800 من السودانيين إلى الخرطوم بالتنسيق مع سلطات في بلادهم. وقالت السلطات هناك إن المرحلين دخلوا البلاد للعلاج ولم يتم منحهم حق اللجوء، حسب تأكيد المتحدث الرسمي باسم الحكومة الأردنية”. وهذا لا يحتاج لتعليق. وخبر آخر نمتنع عن التعليق عليه أيضا يقول: “كشفت مديرة الإدارة العامة للبرامج الاجتماعية بوزارة الرعاية عن تزايد أعداد المرضي النفسيين من كبار السن المتواجدين في الشارع العام”.