تحقيقات وتقارير

الخلوة الشرعية لنزلاء السجون.. حقوق مهضومة


“لا توجد أماكن لخلوة شرعية”.. بهذه الكلمات أجابت مديرة سجن النساء بأم درمان على لجنة التشريع والعدل وحقوق الإنسان بالبرلمان لدى تفقدها السجن الشهير على إثر ورود أنباء تفيد بحدوث ممارسات لا أخلاقية، وقد أرجعت إدارة السجن الأمر إلى الاكتظاظ وعدم وجود أماكن للخلوة الشرعية للنزيلات المتزوجات، وإذا كان السجن التاريخي يفتقر الى مواقع مخصصة تتيح للسجناء المتزوجين ممارسة حقوقهم الزوجية التي نص عليها القانون، فإن هناك سجوناً أخرى بالبلاد توجد بها أماكن تم تشييدها تحديدًا لهذا الغرض، غير أن سجناء سابقين يؤكدون عدم ممارسة حقهم في الخلوة الشرعية طوال فترة عقوباتهم المتفاوتة، بيد أن إدارة السجون تؤكد أن النزيلاء يتمتعون بهذا الحق .

نماذج متفاوتة

“ع” الذي كان محبوساً بسجن الهدى على ذمة بلاغ مالي، يشير الى أنه مكث وراء القضبان خمس سنوات الى أن تمكن من الإيفاء بالمبلغ ومن ثم تم إطلاق سراحه، يلفت الى أن مدينة الهدى التي تعتبر أحدى أحدث السجون بالبلاد التي تتوفر فيها خدمات جيدة مقارنة مع السجون الأخرى، الى أن المساجين يتمتعون بحقهم الشرعي في الخلوة بزوجاتهم وأن هناك أماكن مخصصة لهذا الغرض، ألا أنه يؤكد عدم حصوله على هذا الحق لعامل نفسي، ويشير الى أن معظم المحبوسين لا يهتمون كثيرًا بالتمتع بهذا الحق بسبب الضغوطات النفسية التي يرزحون تحت وطأتها، ويؤكد أن هناك من يلجأ في فترات متباعدة الى التمتع بحق معاشرة زوجته، وإذا كان “ع” السجين السابق بسجن الهدى قد أكد وجود أماكن للخلوة الشرعية فإن سجيناً آخر قضى سنوات بسجن الأبيض بولاية شمال كردفان يقطع بعدم وجود أماكن مخصصة للخلوة الشرعية، بل إنه نفى تماماً معرفتهم بهذا الحق، وقال: ” لم أسمع بهذا الأمر إلا منكم فطوال الثلاث سنوات التي قضيتها في السجن لم يخبرني أحد بإمكانية حضور زوجتي للاختلاء بها في مكان يراعي خصوصية الممارسة الزوجية، أما السجينة السابقة “م” التي ايضاً كانت موقوفة لأربع سنوات على ذمة بلاغات مالية بسجن النساء بأم درمان فقد أكدت عدم حصول السجينات على هذا الحق، ولفتت الى أن الممارسات السالبة التي تحدث عنها الإعلام أخيراً موجودة ولا يمكن إنكارها، إلا أنها كشفت عن محدوديتها نسبة لاكتظاظ السجن .

الشرع ونصوص واضحة

إذن دعونا أولاً نتعرف على حقوق المسجون في الشرع بحكم أن بلادنا تحكم بالشريعة” حسب تأكيد الحكومة”، فالثابت شرعاً أن جمهور الفقهاء “باستثناء المالكية” نصوا على عدم منع المحبوس من مباشرة زوجته في السجن إن كان في مكان مخصص ومهيأ بحيث لا يطلع عليه أحد، وسند الفقهاء في ذلك أن المعاشرة من الحقوق المشتركة، فهو حق ثابت ولم يطرأ ما يسقطه، ويؤكد هذا الحق أيضاً ما جاء فى حاشية ابن عابدين من قوله: “لا يمنع المسجون من دخول زوجته أو أمته عليه والاتصال بها، إذا كان هناك مكان خال في السجن يخلو بها فيه، لأنه غير ممنوع من شهوة البطن فكذا الفرج، ولكن لا تجبر الزوجة إلا إذا كان فى السجن سكن مثلها لما فى ذلك من ضرر عليها”.

القانون الدولي يتحدث

في دراسة شاملة أعدها رئيس محكمة الاستئناف بجمهورية مصر المستشار الدكتور خيري أحمد الكباش، عن حقوق نزلاء السجون في الخلوة الشرعية فقد أكد أنها منصوص عليها في قوانين حقوق الإنسان، وأضاف من خلال أطروحته الشاملة: من أهم ما يراعى في قانون الخلوة الشرعية الحفاظ على التوازن النفسي والأخلاقي للإنسان المسجون – رجلاً كان أو امرأة – ولا شك في أن أسباب اختلال هذا التوازن كثيرة داخل السجون، ولكن يعتبر حرمان الإنسان المسجون “المرأة والرجل” من الخلوة الشرعية بزوجة في السجون، لفترة تزيد عن ما تتحمله الطبيعة البشرية العادية في هذا المجال من أخطر أسباب هذا الخلل، الأمر الذي يحتم حماية هذا الحق وتأصيل سنده، وطرح تجارب عملية في حمايته، ومضى في أطروحته مضيفاً: ولعل التذكرة بقواعد الحد الأدنى لمعاملة الإنسان المسجون المعترف بها دولياً تمهيد للتأكيد على أهمية حق المسجون بالخلوة الشرعية هذا الحق ليس ترفيهاً للإنسان المسجون، وليس خروجاً على مقتضيات العقوبة، لكنه إصلاح للنفس البشرية ووسيلة هامة للحفاظ على التوازن النفسى والأخلاقى للإنسان المسجون، فبغير تحقيقه سوف ينحرف هذا الإنسان انحرافاً يدفع المجتمع بكامله ثمنه غالياً، ودرء المفسدة مـُقدم على جلب المنفعة، علاوة على أن المكونات الشرعية والدستورية والقضائية للعقوبة السالبة للحرية لا تؤدي إلى حرمان الإنسان المسجون من هذا الحق، ومن ثم وجبت حمايته، وقد حث الفقه الإسلامي على ضرورة ذلك، ويسرت تشريعات الدول المتقدمة تمتع الإنسان المسجون بهذا الحق ونظمت استخدامه.

نماذج عربية

عدد من الدول العربية كفلت قوانينها التي جاءت متماشية مع ما نصت عليه وثيقة حقوق الانسان وعملت على تخصيص أماكن محددة للخلوة الشرعية، وفي هذا الصدد فإن المملكة العربية السعودية تعتبر رائدة، ففي السعودية التي استلهمت مقاصد الشريعة الإسلامية ونظمت لقاء الزوج السجين بزوجه فقد جعلت الخلوة لمدة ثلاث ساعات لمن أمضى في السجن ثلاثة شهور سواء كان محكوماً أو موقوفاً، ونصت اللائحة المؤقتة للسجون الصادرة عام 1385هـ على حق السجناء في الخلوة الشرعية على أن يكون الاختلاء مرة في الشهر على الأقل، ونصت اللائحة على أن “تتاح للمحكوم عليهم والموقوفين الذين مضى عليهم فى السجن ثلاثة أشهر فأكثر فرصة الاختلاء الشرعى بزوجاتهم مرة كل شهر لمدة ثلاث ساعات، وتنفيذاً للائحة المذكورة فقد جهزت إدارات السجون غرفـاً خاصة لهذا الغرض مؤثـثة ومهيأة بعيداً عن عنابر السجناء، وعليها حراسة من بعيد، ويسمح للزوجة بأن تحضر ما ترغب من مأكولات وهدايا بشرط ألا تحتوي على أي ممنوع أو محظور، بل نظمت التعليمات الخلوة الشرعية لمن لديه أكثر من زوجة، فسمحت له بالخلوة مرة كل خمسة عشر يوماً مع واحدة منهن.

أما في دولة الكويت وفى إطار قواعد حماية حقوق الإنسان المسجون، فقد أكدت أن المطالبة بحماية حق الإنسان المسجون – رجلا كان أو إمرأة – في الخلوة الشرعية بزوجه في السجون ليس من قبيل الترف الفكري أو الترفيه للمسجون بما يتعارض مع مقتضيات العقوبة الجنائية المقيدة أو السالبة للحرية، بل هي مطالبة بحق تحميه أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية التي جاءت لتحكم سلوك البشر جميعاً وتحمي حقوقهم وتحفظ عليهم كرامتهم وانسانيتهم، كما تحميه القواعد الدولية في مجملها المتصلة بمعاملة الإنسان المسجون، ولم ينص على منعه في الدستور أو الحكم القضائي الصادر بإدانة السجين وبتقييد حريته أو سلبها، فتنفيـذ العقوبة المقيدة لحرية المحكوم عليه – رجلاً كان أو امرأة – أو السالبة لها، لا يقيد أو يسلب من المحكوم عليه كرامته وإنسانيته، فالكرامة والإنسانية متلازمان مع الإنسان دون اعتبار لزمانه ومكانه.

تطبيق التجربة بالسودان

في السودان وبحسب إدارة السجون فإنها حرصت منذ أعوام على تطبيق اللوائح التي تسهم في الإصلاح النفسي للنزلاء، وذلك بتطبيق الخلوة الشرعية ونظام الإجازة للنزيل وفق الشروط الموضوعة ونظام التراسل والزيارات حسب اللوائح والضوابط المعمول بها في السجون السودانية، وأشارت الإدارة العامة للسجون أنها قدمت قبل ثلاث سنوات النماذج المعمول بها في سجون السودان في ورقة بعنوان: (السياسة الإصلاحية لسجون السودان) خلال مؤتمر رابطة السجون العالمية الذي عُقد بسنغافورة، كاشفة عن أنها وجدت نقاشاً مستفيضاً وإشادة باللوائح المطبقة في السجون السودانية من قبل منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية العالمية العاملة في مجال حقوق الإنسان، التي تعمل في مجال تحسين بيئة السجون وتهيئة الجو الإصلاحي، وكشفت عن أن الورقة تناولت كمثال (امتياز الضمانة للنزيل الحسن السلوك بعد مضي فترة من حكمه وبعد انطباق الشروط التي حددتها اللوائح عليه)، ولفت إلى أن سجون السودان تميّزت بنظام الإجازة للنزيل وفقاً للشروط الموضوعة ونظام التراسل والزيارات ونظام الزيارة الزوجية (الخلوة الشرعية)، وقال إنّ هذه النماذج تعتبر من المعاملة التي تدفع بالعملية الإصلاحية وتسهم كثيراً في تعديل سلوك النزيل.

ولكن

الدولة ممثلة في إدارة السجون تؤكد حصول السجين على حقه في الخلوة الشرعية، وهذا أمر نعتقد أنه جيد إلا أنه لم يقنع القانوني رمزي يحيى، الذي يؤكد أن حق الخلوة الشرعية منصوص عليه في اتفاقية جنيف المتعلقة بالحد الادنى لمعاملة نزلاء السجون، ويؤكد في حديث لـ (الصيحة) على أنها حقوق ينبغي أن يتمتع بها المسجون بوصفه إنساناً، ويلفت الى أن الوضع السائد في السودان أقل من الحد الأدنى للاتفاقية، لافتًا الى أن هذا الأمر انعكس سلباً في عدم حصول السجين على حقه القانوني والشرعي في الاختلاء بزوجته، ويرى أن البنية التحتية للسجون بالسودان لا تلبي حاجات المسجون وأغراضه بوصفه إنسانا لممارسة حياته الطبيعية خاصة فيما يتعلق بالاختلاء بزوجته، مؤكدًا على أن حق الخلوة الشرعية غير مطبق بالسجون، وأنه في كثير من الحالات يتوقف على مدى إنسانية مدير السجن وتفهمه، مبيناً أن هناك عدداً من مديري السجون ينظرون الى هذه القضية بعين الاعتبار ويسمحون للنزلاء بممارسة حقوقهم الزوجية بطرق مختلفة وذلك لعدم وجود أماكن مخصصة في معظم السجون، وأردف: ” في حالات كثيرة عندما يتعرض السجين لوعكة صحية تستلزم وضعه على سرير المرض بالمستشفيات يجد فرصة الاختلاء بزوجته رغم مرضه، وقال إن الأمر ليس مقنناً، ويشدد على ضرورة تشييد مبانٍ ملحقة بالسجون يتمكن خلالها النزيل من ممارسة حقوقه الزوجية، ويعتقد أن غياب هذا الحق له إفرازات سالبة تتمثل في الشذوذ الجنسي والانحراف، لافتاً الى أن السجن مكان للإصلاح والتأهيل والتهذيب وأن تحقيق هذه الغايات لا يمكن إدراكه بعيداً عن حقوق السجين الأساسية.

قضية حقيقية

من جانبها تؤكد عضو لجنة التشريع والعدل وحقوق الإنسان بالبرلمان الدكتورة عفاف تاور أنه وبحسب زياراتهم لعدد من السجون ثبت لهم وجود أماكن للخلوة الشرعية، غير أنها وفي حديث لـ(الصيحة) نفت معرفتهم حصول النزلاء على هذا الحق من عدمه، وتعتقد تاور أن المرأة السودانية بطبعها ومن ناحية أدبية لا تستطيع الذهاب الى زوجها للسجن بهدف الاختلاء به حتى لو كانت هناك أماكن مخصصة لهذا الغرض، وترى أن هذا من الأسباب المباشرة التي أثرت سلباً في ممارسة السجناء لحقوقهم، وقالت إن إدارات السجون ظلت تؤكد وجود أماكن للخلوة الشرعية، ألا أن ظاهر الأمر لم يكشف لهم عن وجودها، ونفت وجود خلوة شرعية بسجن النساء بأم درمان، معتبرة أن اكتظاظ سجن النساء بأعداد فوق طاقته الاستيعابية يحول دون الممارسات السالبة لعدم وجود مساحة كافية، وأكدت على أن سجون الرجال مهيأة أفضل من سجن النساء، وشددت على أن السجون في السودان تحتاج لإعادة نظر لجهة وجود أعداد كبيرة من الأجانب والأطفال خاصة، وتؤكد على أن حصول السجين على حقه في الخلوة الشرعية يتوقف على منظمات المجتمع المدني التي عليها أن ترفع وعي النساء بأهمية إعطاء الزوج المسجون حقه الشرعي، وذلك حتى تتواصل حياة الطرفين دون مشاكل.

الصيحة