رأي ومقالات

قصة “حياة” وقصة “موت”


أول طفلٍ أخرجته من رحم إمرأة بعملية قيصرية حين كنت طبيباً حديث عهد بالنساء والتوليد كان بإشراف هذا الرجل في مستشفى ود مدني ..

لا أزال اذكر ذلك اليوم من شتاء ديسمبر في ساعات الفجر الأولى وقت السحر، ثم قمت بخياطة الرحم وطبقات البطن المختلفة والجلد وقام طبيب التخدير بإيقاظ الأم التي كانت تذكر الله وهي تحت تاثير التخدير.. كان صبياً.. صبياً حلواً.

دائماً الأشياء الأولى في حياتك لها طعم خاص.. خصوصاً تلك المتعلقة بالإنسان والروح والخلق .. تشعر فيها بنفحة الألوهية العظيمة :

صرخة الميلاد الأولى..
اول دفقة حليب من ثدي الأم..
تعابير وجه الأم وهي تتامل مولودها الجديد..
توقف قلب المريض ثم عودته للنبض مرة أخرى بعد إنعاشه.
زغاريد الجدات التي تدلف إلى اذنيك من خلف غرف العمليات المغلقة حين يصلهم الخبر السعيد؛ صبي وسيم .. أو صبيةٌ جميلة.

حين تشعر أنك جزء من ذلك كله وأن القدر وضعك هناك لتتحمل مسؤولية صعبة .. ينتابك فرحٌ شديد وفخرٌ وإعتزازٌ ومزيج آخر من المشاعر الإنسانية يصعب الحديث عنها حين تنجح في أدائها بحقها.

ذلك الرجل إسمه “ماجد إبراهيم” أستاذ النساء والتوليد بجامعة الجزيرة .. ولكني فجعت بأنه مات اليوم في حادث سير أليم وهو عائد من إمتحانات طلاب كلية طب جامعة القضارف .. مات وهو عائد من أسمى مهنة إنسانية “التعليم”.

أشياء كثيرة تدور في ذاكرتي الآن.. ضحكاته وقهقهاته والبثور الضخمة التي تملأ وجهه .. نظارته السميكة .. المنديل الذي مسح به العرق عن جبيني رغم برودة الجو من رهبة العملية.. مزاحه مع المريضات والقابلات وقسوته الرحيمة علينا لكي نتعلم ويصلب عودنا.. تثبيته لي وأنا أمسك بالمشرط لأشق بطن إنسان للمرة الأولى.. ويالها من رهبة..!

وما بين صرخة ذلك الطفل الوليد ورحيل ماجد تبدو الحياة التي يتقاتل الناس عليها ويظلم بعضهم بعضاً على حقيقتها .. قصيرة جداً ..

اللهم ارحم عبدك د. ماجد برحمتك الواسعة التي لا تحدها حدود، وبكل قلب ام وأب ادخل عليه السرور السرور.

كلنا لك يا الله وكل واحد منّا إليك راجع.

بقلم د.لؤي المستشار