د. ياسر محجوب الحسين

المناخ.. هل يُصلح العطّار ما فَسَدَ؟


تتمثل العدالة الدولية التي لم تتعد إطارها النظري إلا قليلا، في كيان الأمم المتحدة وتفريعاتها المؤسسية كمجلس الأمن واليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية وغيرها. بيد أن أساس هذه العدالة المزعومة قائم على توازنات القوى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، فتوزعت أنصبت “العدالة” على دول العالم وفقا لذلك، فالأقوى هو صاحب النصيب الأكبر وتلكم قسمة ضيزى دون شك. الأسابيع الماضية شهدت اجتماع قمة زعماء وممثلي 195 دولة في فرنسا، ليؤموا أضخم مؤتمر في تاريخ محادثات المناخ، أقرّوا فيه اتفاقا عالميا لمواجهة الاحتباس الحراري، ووصفت فرنسا التي استضافت القمة، الاتفاق بأنه “عادل ومتوازن وملزم قانونا”.
من تابع صور الابتسامات والعناق الزائف والمجاملات الفجة، بين الرؤساء والزعماء، لظن ظان أن الكون كله يعزف نشيدا، وأن النظام البيئي العالمي مُصانٌ ومحافظٌ عليه، وليس أولئك هم لوردات الحروب المستمرة التي تحصد الإنسان والبيئة على حد السواء.
نعم في غمرة مظاهر النفاق الدولي تجري أنهار دماء الأبرياء ويسود الانتقام وتمدُّ المصالح الضيقة ألسنتها، وتغيب الأخلاق وترتفع الشعارات الزائفة. بالطبع لا يجوز أن يحلُم الناس يوما بجمهورية أفلاطون الفاضلة، فالصراع هو القانون الطبيعي الذي يحكم الحياة، لكن أن تغدو الصراعات العسكرية والاقتصادية مشروع انتحار كوني فتلك هي الطامة الكبرى، وهو انتحار بأفعال الكبار لكنه لا يبقي ولا يذر.
لقد أصبحت قضية حماية البيئة قضية سياسية بامتياز نظرا لأهمية قضية التغيٌّر المناخي، وأثرها الواضح على العلاقات الدولية، كما أن الأخطار الكارثية الكونية لا يمكن معالجتها إلا عبر قرارات سياسية في أعلى مستوى. وسبق أن عرضت القضية البيئية على مجلس الأمن الدولي على أساس أن تغير المناخ سوف يؤثر على أمن وسلامة العالم كله. صحيح أنه عندما تطرح القضية البيئية فإن تدافعا دوليا يثور ليبدوا للمتابع مثاليا، إلا أن تلك المنتديات تنوء بمزايدات كثيفة. وقيل إن المفاوضين والمندوبين سلموا وزراء البيئة وثيقة من 43 صفحة، تحتوي على أكثر من تسعمائة صيغة بسبب الخلافات الكبيرة بين الدول.
وتتكبد المنطقة العربية أعباء كبيرة ومخاطر عديدة تحدق بها، وكان صوتها خافتا في قمة باريس الأخيرة. فعلى سبيل المثال، لو زاد معدل ذوبان الجليد عما هو متوقع، فإن سطح البحر سيرتفع بمقدار 5 أو 6 أمتار. وفي هذه الحالة، ستغرق دلتا مصر، وربما يمتد ارتفاع البحر إلى القاهرة.
والحديث عن ضرورة الحد من الغازات الملوثة للجو والبيئة، فإنه ذلك يعني بالضرورة الحد من النشاطات الاقتصادية، وهنا يتعارض الأمر مع مصالح قوى كبرى، وهي تمانع التوجه نحو الاستثمار في نشاطات اقتصادية صديقة للبيئة، أو نشاطات صناعية نظيفة وخضراء، لارتفاع التكلفة، وهنا تشتبك السياسة وتتداخل مع المال، فيظهر تأثير رجال المال والاقتصاد على السياسيين، وهذا ما زاد من صعوبة نقاش موضوع التغيرات المناخية في قمة المناخ الأخيرة في فرنسا، خاصة من جانب الدول الصناعية الكبرى. ويبدو أن جعل الطاقة أكثر تكلفة مسؤولية سياسية وهذا هو فالتحدي الماثل.
لقد ظل التنصل عن الالتزامات المالية مؤشرا لعدم جدية الدول الكبرى في معالجة قضايا البيئة، ومنذ العام 1972، عقد زعماء العالم حتى اليوم نحو أحد عشر مؤتمر قمة دوليا وكان آخرها مؤتمر باريس قبل عدة أسابيع، واحتدم الجدل فيه بين الدول الغنية حول التزامات كل دولة هذا من جانب، بينما احتدم من جانب آخر بين الدولة النامية والغنية بشأن الأموال المخصصة لدعم الدول النامية للتعامل مع آثار تغير المناخ.
وإن كان الالتزام المالي مبررا لانسحاب الولايات المتحدة وكندا من اتفاقية كيوتو على سبيل المثال وهذا غير منطقي بالضرورة، فكيف يمكن تفسير رفض الولايات المتحدة وروسيا، والصين، والهند، التوقيع على البروتوكول المتعلق بحظر أو تقييد استعمال الألغام بينما استجابت له 123 دولة. فكيف تتخاذل هذه الدول وهي الدول الرئيسية في تخزين وإنتاج واستخدام الألغام، عن إنهاء المعاناة والإصابات الناتجة عن الألغام المضادة للأفراد التي تقتل أو تشوه، آلاف الأشخاص.
“الماء يكذب الغطاس” مثل شعبي يضرب عندما تكون الفرصة متاحة لشخص ليبرهن على زعمه مع العلم بعدم قدرته على الإيفاء به.. ففي المؤتمر الأخير بباريس أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما، مستثمرا الأضواء الإعلامية الكثيفة، خطته حول ما أسماه “التهديد الكبير” الذي يشكّله التغير المناخي على العالم، معلنا فرض قيود غير مسبوقة على محطات توليد الكهرباء في بلاده. ومازالت محطات الكهرباء في الولايات المتحدة التي تعمل على الفحم تنتج 37 بالمائة من احتياجات البلاد من الكهرباء.