حيدر المكاشفي

الكادحون.. فقراء نعم ولكن نبلاء


صحيح أن مشهد ماسحي الأحذية المعروفون شعبياً بــ(بتاعين الأورنيش) وهم يقدمون للوالي أحمد هارون تبرعهم البالغ ثلاثة آلاف جنيه، جمعوها من بين فرث الفقر ودم الحاجة، كان مشهداً مؤثراً؛ استمطر دموع الوالي تأثراً به، ولكنه عندي لم يكن موقفاً مستغرباً ولا مستبعداً من كادحين مثلهم، فأنا أصلاً لدي قناعة قديمة وزعم قديم بأن الفقراء أكثر نبلاً وكرماً وقناعة وشهامة من الأغنياء، ولم تزدني الأيام وتجارب الحياة إلا قناعة بهذا الزعم، ولهذا لم أستغرب أو أُدهش من موقف هؤلاء الفقراء الكادحين، فهكذا دائماً هم فقراء بلادي؛ رغم أنهم يقبضون على الجمر إلا أنهم لا يسألون أحداً منّة ولا عطية، بل تجدهم هم العاطون رغم ما بهم من خصاصة وتراهم أشد الناس غنى، فيما جيوبهم فارغة، كما تجدهم الأكثرين عند الفزع والأقلين عند الطمع رغم أن قلوبهم مثقلة بالأسى والآهات ورغم ما يقاسونه من آلام ومرائر، ورغم أنهم يتقلبون على نار الحاجة والفاقة والحرمان، ولكن مع ذلك يتجمّلون بالصبر والرضا، وهل هناك أتم وأكمل وأبهى حلية يمكن أن يتزين بها المرء أهمّ من الصبر والرضا.
والقصص التي تعكس نبل وشهامة ورجولة هؤلاء الكادحين بعدد الحصى مما لا يمكن حصره هنا، وما الذي قدمه صبية الأورنيش إلا نموذج لمئات بل آلاف النماذج لأمانة ونزاهة وشهامة ومروءة فقراء بلادي، ومن هم في عدادهم، ولكن اسمحوا لي أن أتخير منها قصة الواثق صباح الخير الذي خصّه البروف علي المك رحمه الله بتوثيق سيرته، فالواثق هذا كان قد تم إعدامه وصلبه بموجب القوانين التي أطلق عليها مسمى الشريعة، وكانت جريمته التي قادته إلى هذا المصير، أنه كان يسرق من الأغنياء ويصرف على الفقراء، فكان يتسور المنازل الفخيمة ويسطو على المتاجر الكبيرة ليلاً، وعند حلول الصباح يكون قد وزع أغلب ما سطا عليه على الفقراء في حيّه الذي يقطنه وخارج حيّه، لقد كان شهماً وجسوراً وكريماً محباً للفقراء رغم أنه سارق ورغم أن غايته النبيلة لا تبرر وسيلته المحرّمة والمذمومة. لقد كانت قضية هذا الفتى اليافع أنه وجد فراغاً اجتماعياً فملأه بطريقته… وبقي أن نقول إن الفقير ليس هو من لا يملك مالاً ولا سيارة، وليس هو صاحب الدخل القليل المحدود، أو هو الذي تراكمت عليه الديون، ومن جهة أخرى ليس الغني هو صاحب المليارات والعمارات والمزارع والبساتين، فالفقير هو الذي يفتقر للغنى الروحي والقلبي والقناعة واليقين، والغني هو من امتلك هذه الخصائل والفضائل، يزداد غنى كلما زادت حصيلته منها، والناس معادن بعضهم نادر ونفيس وبعضهم كالصفيح، ومعادن الناس لا علاقة لها بالمال والثراء أو الفقر والإملاق، وإنما علاقتها بالعادات والطباع والتربية والأخلاق، فمن كان عزيز النفس عالي الخلق فهو من الأغنياء، والعكس صحيح، وعلى ذلك قس يا عزيزي القارئ.