رأي ومقالات

هل لنا من برلمان يقظ؟..


الهيئات التشريعية بمختلف مسمياتها، هي السلطة العليا للدول بحسبان أنها تمثل قواعد الشعب صاحبة الحق التي أعطت الإنابة لأعضاء تلك الهيئات بترجمة مرغوباتها ومطلوباتها الى واقع، غير أن بعض الدراسات العلمية تشير لعدم وجود برامج مدروسة ومخططة من شأنها بناء رؤية ثاقبة للأجهزة التشريعية في كثير من الدول، وخاصة في العالم الثالث. وتُظهر مخرجات بعص الدراسات، أن الحياة البرلمانية في أغلب دول العالم الثالث تفتقد لوجود أسس ديمقراطية شفافة تعزز مقدرتها على رسم صورة ذهنية مقبولة لنشاطاتها، الأمر الذي يوضح أن العلاقة بين المجالس النيابية والجمهور يشوبها عدم الثقة في كثير من الأحيان نتيجة لقصور البرلمانات في تأدية مهامها وفق النصوص التي يحددها الدستور، بما يحقق الاشواق والآمال التي يتطلع اليها المواطن الذي ادلى بصوته في الانتخابات لتحقيق التنمية والاستقرار والتطور الذي ينشده. وهو ما يجعل تلك البرلمانات ضعيفة وصورية لا تستطيع الايفاء لناخبيها بخف بعير.
وتتفق أغلب إن لم يكن كل آراء المختصين الى أن كثير من الأزمات المقعدة للامم والشعوب المعاصرة، والتي تؤدي الى عدم ظهور برلمانات قوية وفاعلة لاتستطيع القيام بدور حقيقي يمكن تلخيصها في ستة محاور رئيسة تتمثل في الآتي:
> أزمة الهوية: وترتبط بتعريف المواطن لهويته، وتعني التشرذم الثقافي والعجز عن التكامل في إطار واحد.
> أزمة بناء الأمة: وهي مرتبطة بالأولى وتتعلق بعدم مطابقة الحدود الجغرافية للدولة بالحدود الجغرافية للأمة.
> أزمة شرعية: وتتعلق بعدم تقبل غالبية أفراد المجتمع للنظام السياسي القائم، ومن ثم عدم خضوعهم له طواعية لاعتقادهم أنه لا يحقق أهدافهم وتوقعاتهم..
> أزمة مشاركة: وهي النتيجة الطبيعية لوجود أزمة شرعية وتتعلق بعدم وجود ميكانزمات محددة في المجتمع لتداول السلطة على كافة المستويات القيادية.
> أزمة تكامل: وتتعلق بوجود جماعات عرقية، ترى أن الانتماءات المنطقية والجهوية والطائفية تسمو على الانتماء للدولة القائمة.
> أزمة توزيع: وتتعلق بعدم المساواة والعدالة في توزيع الموارد الاجمالية، حيث تظفر القلة بالنصيب الأكبر من تلك الموارد بينما تنال الأغلبية الجزء الأصغر والأقل منها.
بالتمعن في هذه المحاور نكاد نجزم أن الحالة السودانية مضروبة بفيروسات مماثلة للنصوص الواردة اعلاه، فبالرغم من تنوع مشارب الفكر السياسي السوداني الذي يمكن أن يكون مصدر ثراء ومرجعية فكرية لكيفية ادارة الدولة في ظل الازمات السابقة والحالية، ومن خلال قراءة التاريخ النيابي في البلاد منذ تكوين أول برلمان سوداني بالانتخاب عام 1954- 1958م وحتى 2015، يلاحظ أن الممارسة النيابية التي يمكن أن تعيد التوازن للمجتمع السوداني، مازالت في طور التكوين. فهل يا ترى يستطيع البرلمان الحالي تغيير الوضع الراهن بتحدياته الجسيمة هذه بعد أن استشرت المناطقية والجهوية والفساد المالي والاداري في مختلف مؤسسات الدولة؟ وهل بالامكان تأطير ممارسة برلمانية واعية بمطلوبات وجودها وفق رؤى محددة وواضحة، تستطيع أن تقوم بدورها كاملاً في حفظ مقدرات الامة وصيانة حقوقها وحراسة ممتلكاتها من الضياع وتلاعب المفسدين ومستغلي النفوذ،ام سنشهد نسخة مكررة مماثلة لسابقات المجالس التشريعية تضم ذات الشخصيات ويمارس فيها ذات السلوك الذي لا يخلو سيطرة اللون السياسي للحزب الحاكم صاحب الاغلبية وتأثيراته على قرارات المجلس، وبالتالي الحد من وجود كتل برلمانية ذات معارضة قوية. فهل لأعضاء المجلس الاستعداد لاداء مهامهم على اسس تنبني على الحرية والوعي والانحياز التام لمصلحة البلاد لا مصلة الاحزاب، دون التواطؤ مع الاغلبية الحزبية التي تعلي مصلحة الحزب على المصالح الوطنية العامة، الامر الذي يؤدي الى صعوبة اتخاذ مواقف وقرارات صارمة تجاه الوزراء والمسؤولين الذين ينتمون للحزب الحاكم صاحب الاغلبية، وبالتالي صعوبة بناء مؤسسات تحترم مبدأ التعددية السياسـية. فيضيع دور الرقابة البرلمانية المطلوب والمأمول.
ويعتبر مشروع الموازنة العامة التي اجازها المجلس الوطني للعام 2016م، من المهام الرئيسة التي يمكن أن تمثل بداية فعلية للمجلس الوطني الجديد، واختبار حقيقي لفرض هيبته على الحكومة بتطبيق معايير علمية ومهنية توجه وتراقب الاداء العام بما يحقق المبتغيات الوطنية، ومجال واسع لإعمال مبدأ الشفافية والمساءلة الذي نادت به الدولة مؤخراً، بالانتقال من دائرة التنظيرإلى الفعل، وتحويل التعهدات بوقف الفساد إلى أعمال وتطبيقات ونتائج. تمشياً مع برنامج الاصلاح المطروح والمحفوف طريقه قطعاً بالاشواك والمتاريس، فإقرار الموازنة العامة يعطي الاشارة للجهاز التنفيذي للتداول الفعلي للاموال النقدية، وما في حكمها، وهو ما يعد أصعب واخطر منعطف تمر به الاموال العامة، بتوفر جملة من المداخل التي تجعل ممارسة الافعال الفاسدة ممكنة ومحمية، كالتحكم في الوظائف، وضغوط التأييد السياسي، والرشى والاختلاس وهدر المال العام وغير ذلك من اشكال الفساد الاداري والسياسي. وبحسبان أن الرقابة المالية والادارية للجهاز التنفيذي من مهام الهيئة التشريعية بالضرورة، فعلى البرلمان ممارسة ذلك بقوة مع الاجهزة الرقابية المختصة والتي ينبغي أن يوافق المجلس على تعيين كبار مسؤوليها أوعزلهم لتأكيد ضمان استقلالية تلك الاجهزة وعدم التأثير عليها من قبل الجهاز التنفيذي، باعتبارها أعمدة النزاهة الوطنية، لا مجرد إدارات تتبع للسلطة الحاكمة بشكل أو بآخر، تجرم الضعيف ولا سبيل لها على القوي ذو المنعة والسلطة المحصون. فهل لنا من برلمان يقظ يكون حليفاً قوياً للشعب، وضابطاً حقيقياً ورقيباً لصيقاً للسلطة التنفيذية؟ .

محمود الرزيقي
الانتباهة