داليا الياس

استقلال مجيد.. وطن جديد


# كل استقلال وكلنا بخير.. وبينما تغمرنا احتفالات المناسبة.. تجدوني مدفوعةً بهوس الأمومة الفطري أتأمل أعياد الاستقلال.. وأتساءل عن أحلامي المشروعة في كل عام.. أجري في جميع الاتجاهات سعياً وراء الإمكانيات التي توفر لأبنائي حاضراً ومستقبلاً آمناً ومريحاً.. هذا الهوس الذي لا تجدي معه مهدئات الصبر ولا الاعتماد على الآخر، فنحن مسكونات بالقلق عليهم في ما بعد رحيلنا الوارد في كل ساعة.. وتجدني أكيدة من أن معظم الأمهات قد طافت بخواطرهن الحانية مشاهد اللحظات العصيبة التي قد تمر بأبنائهن لو حدث وعانقت كف ملك الموت أرواحهن لا قدّر الله.
وتجدني أحياناً أضحك على نفسي مستغفرة من بين دموعي الغزيرة المنهمرة حالما دار في ذهني ذلك السيناريو المفزع لردود أفعال كل واحد منهم في تلك اللحظة العصيبة من عمر الزمان التي يكتب فيها عليهم اليتم من بعدي.. أراهم يتجولون في سرادق العزاء.. يستدرون عطف الجموع.. والنساء يمصمصن شفاههن إشفاقاً عليهم.. وهم لا يدركون أبعاد الحدث ولا يعلمون أي منقلب ينقلبون. ثم أبدأ برغمي – بعد أن أعزي نفسي في فقدي وأتألم لمصاب أهلي وأبنائي – أتساءل عن أكثر الناس أهلية بكفالتهم.. وأبدأ في تصنيف من حولي بشفافية مطلقة.. فهذا غير مسؤول، وهذا قاسي القلب، وهذا عصبي المزاج وتلك – وهي في الغالب أمي – قد تشكل العناية بهم رغم ثقتي في إجادتها التامة لها المزيد من الأعباء عليها، وهي في هذا السن، وبعد كل تلك المعاناة مع المرض والحياة.
# وبعد أن أتنهد وأستعيز من الرجيم وأعود لرحاب الإيمان بالله وقضائه.. أبدأ في البحث عن ما يجعلني أكثر اطمئناناً عليهم.. وأكتشف أنهم لا يحتاجون فقط للمال الوفير ولا الحنان الدافق ولا الرعاية المميزة ولا الحب الكبير ولا الأهل والعزوة.. إنهم يحتاجون دائماً.. في وجودي أو عدمه.. إلى (وطن).
#وحال الوطن الآن لا يرضي تطلعات أمومتي ولا يهدئ روع مخاوفي.. حاضرنا فيه غير سعيد ومستقبلنا غير واضح.. أجسادنا فيه منهكة, وعقولنا مجهدة, وأحلامنا موؤودة, وأرواحنا محبطة.
لم نعد نلوذ ببعضنا البعض، ولا نحتمي بعلاقاتنا الإنسانية من غدر الحياة، لأننا منشغلون جميعاً بالركض وراء سراب المصالح الشخصية، ولم يعد لدينا الوقت الكافي لغير ذلك.
لا نكترث.. لا نتعاطف.. لا نتعاون.. ليضيع (الوطن) المسكين بين مطرقة الجشع وسندان الفقر، ولا يجد منا في الحالتين سوى اللعنات التي نكيلها له، وهو في الأساس لا يد له في شىء.
# إذن.. مطلوب (وطن).. آمن ومستقر وقوي ومنتج ونظيف و(نزيه) لنتركه تركةً لأبنائنا، ونموت ونحن مطمئنون عليهم، بينما يتولانا الله برحمته هناك.
مطلوب (وطن).. متطور وراقٍ وغني ومتعلم وصحيح البدن.. ليمنح صغارنا كل ما لم نتمكن من منحهم إياه، فكان هو على قدر المسؤولية وعوضهم عن حرمانهم بأفضل مما كان.
مطلوب (وطن).. يتلاءم مع زمانهم الذي ولدناهم له وهو غير زماننا.. وطن أكثر رقياً وتحضراً ورخاءً وعافيةً وعلماً ومعرفة.. وطن أكثر التزاماً وعفةً ووضوحاً وصدقاً ونشاطاً.. وطن أجمل صورةً وأعذب صوتاً وأنقى ضميراً وأطيب ناساً.
# نحن لا نملك ما نتركه لهم سوى (الستر)، الذي أصبح نادراً في هذا الزمن المخيف الموبوء بالمستجدات المدهشة والمحزنة والمرارات المتلاحقة والخوف الكامن في ثنايا الأيام.
فهل لنا ولهم بوطن لا نرسمه فقط في خيالنا أو نكتبه شعراً وأشواق؟ هل لنا بوطن نحبه ويحبنا ونشعر تجاهه بالانتماء والولاء دون تذمر أو حنق أو غبينة؟
مطلوب (وطن).. شاسع وأخضر وعادل.. يقدر مواطنوه بعضهم البعض.. ويلتزمون بحدود الإنسانية والرحمة والاحترام..
في كل عام.. حين تحين ذكرى الاستقلال المجيد.. أتمنى لكم عاماً طيباً.. وأهنئكم بالمناسبة العظيمة.. وأتمنى لكم من كل قلبي أن نستشعر معاً المعنى الحقيقي للاستقلال.. من خلال انعتاقنا الاقتصادي ووصولنا للوحدة الصادقة ليحمل الوطن اسمه فعلياً.. فكل عام والوطن يجمعنا.
تلويح:
نريد استقلالاً فعلياً نعيشه.. لا مجرد مناسبة تاريخية نتذكرها !!