الطيب مصطفى

بين قضية سنار ومنظومة العدالة


ما أبعدنا عن روح ديننا وأخلاقه وقيمه بالرغم من أننا نقرأ آناء الليل وأطراف النهار آيات الله تزأر محذرة ومنذرة (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)؟!
أقول هذا بين يدي الحكم الصادر من المحكمة العليا بسنار والذي برأ مدير الحج والعمرة في تلك الولاية من تهمة الزنا التي ملأت الدنيا وشغلت الناس وضجت بها الصحف والأسافير، وصارت حديثاً متداولاً بين جميع أفراد الشعب السوداني تقريباً حيث لم يكد يخلو بيت من التداول حولها لعدة أيام.
لم نسأل أنفسنا – ولا أبرئ نفسي والله العظيم – هل انتهت إجراءات التقاضي في جميع مراحلها وأدانت المحكمة طرفي القضية بصورة لا لبس فيها أم إن الأمر لا يزال في طور التحاكم أمام القضاء في شأن جعل الله تعالى إثباته أقرب إلى المستحيل نظرًا لتعلقه بالعرض والشرف في المجتمع المسلم، وذلك حتى يغلق الباب تماماً أمام الخوض في أعراض الناس وتشويه صورتهم بالباطل.
القضية التي نحن بصددها الآن تتعلق بسمعة امرأة متزوجة ولها أطفال وإخوان وأخوات وأقارب لم نضع أدنى اعتبار لهم ونحن نخوض في هذا الإفك العظيم كما لم نكترث لسمعة رجل يذهب أطفاله إلى المدارس كل صباح لتنتاشهم ألسنة أقرانهم التلاميذ ويطاردهم وأمهم وأهلهم الغمز واللمز في الحي بل في المدينة والولاية بأجمعها بعد أن أصبح أبوهم مطارداً بأحاديث الإفك والبهتان على مستوى السودان والعالم أجمع.
اتضح أننا بعيدون كل البعد عن هدي ديننا وكأننا لم نسمع بسورة (النور) التي أتت ببيان حاسم وشدّدت الوعيد والنكير على الخوض في أعراض الناس وكأنها تصف حالنا اليوم الذي تكرر في تلك الأيام النحسات في أعظم مجتمع أنجبته البشرية – مجتمع المدينة المنورة – حيث رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن يتنزل عليه مبيناً ومربياً وهادياً في وقت كان فيه المنافقون يتحينون كل فرصة مواتية للتصدي للرسول والرسالة وما إن سمعوا بشائعة حديث الإفك في بيت رسول الله حتى انبروا لها صباً للزيت على النار وإشعالاً للفتنة فنزل القرآن بلسماً شافياً ليطفئ اللهب المشتعل في ثوب البيت النبوي الكريم ويبين المنهج الذي ينبغي أن يلتزمه المجتمع المسلم في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة تحصيناً للمجتمع المسلم من التصدع وحفظاً لوحدته من التمزق.
فقد وصفت الآية التالية ما كان مجتمع المدينة يمور به من أحاديث القيل والقال (إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)، ثم جاء المنهج الضابط لسلوك المجتمع المسلم (يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
ثم ها نحن نعود لذات السلوك الرذيل.. ليس في واقعة سنار لوحدها إنما في كل شأننا.
يقول منطوق الحكم في القضية إن الرجل والمرأة كانا عند توقيف السيارة التي كانت تقلهما في كامل ملابسهما وهيئتهما السليمة ولم يكونا في وضع فاضح وكانا على مشارف القرية أو الحي الذي تقيم فيه المرأة وكان الرجل في طريقه لتوصيل تلك المرأة التي تخدم (عاملة) في إدارته إلى مسكنها.
يا سبحان الله ! صور الرجل وهو قابع في الزنزانة تداولها ربما الملايين من الناس عبر مواقع التوصل الاجتماعي ورجم بقبيح القول وفاحشه وهو البريء من كل تلك التهم!
يهمني أمران في هذه القضية أولهما منظومة العدالة من نيابة عامة وقضائية فكلاهما يحتاج إلى جهد كبير لتطوير أداء كوادرهما فمثل هذه القضية كان ينبغي أن تشطب من مرحلة التحري ناهيك عن نظر الدعوى من قبل القضاء الذي كان ينبغي أن يحسم الدعوى بذات البينات التي حسمتها بها المحكمة العليا.
منظومة العدالة ينبغي أن تضم البعيدين عن الغرض والهوى والفساد بحيث يعين القوي الأمين كما أن العاملين في المجالين ينبغي أن يخضعوا لتدريب مستمر خاصة في القضايا المتعلقة بالشرف إذ لا يعقل أن يصدر حكم من قاضٍ يتجاوز ما توصلت إليه المحكمة العليا من بينات داحضة للاتهام فمن يرد اعتبار مدير ديوان الزكاة الذي تسبب حكم تلك المحكمة الأولى في إلحاق أذى وجروح لا تندمل في حقه وحق كل المحيطين به.
هذه القضية ذكرتني بقضية (المرتدة) أبرار التي أدخلت السودان كله في (كستبانة) جراء أخطاء في منظومة القضاء بشقيها شبيهة بقضية مدير الحج والعمرة بسنار .
أما تسييس القضية فالحديث حوله يطول .. ألا لعنة الله على السياسة!