هيثم كابو

أبقوا الصمود


* عندما أشارت عقارب الساعة الى السادسة مساء الخميس السابع عشر من يناير قبل ثلاثة أعوام من اليوم كانت الطائرة الرئاسية (الانتنوف 74) تفرد جناحيها الآليين استعداداً للإقلاع من مطار (ماركا) الأردني بعمان في طريقها إلى العاصمة السودانية التي خرجت عن بكرة أبيها منذ الصباح تبكي رحيل فنان الشباب محمود عبدالعزيز الذي أسلم الروح لبارئها في التاسعة والنصف من صباح ذات اليوم في الوقت الذي اقتحمت فيه بعض الجماهير المكلومة مطار الخرطوم وعرقلت حركة الملاحة الجوية في انتظار وصول (الانتنوف 74) التي غادرت الخرطوم في الظهر حتى تعود بجثمان (الحوت) في المساء ..!!
* الجثمان الملفوف بعلم السودان يقبع في الجزء الخلفي من الطائرة الرئاسية التابعة لجهاز الامن والمخابرات الوطني، بينما يقف الفريق عبدالقادر يوسف على قدميه مخففاً على الجالسين بالطائرة الأحزان مع أنه لم يكن أقل منهم ألماً وحسرة ..!!
* ودع كل من أسرة الراحل محمود عبدالعزيز ممثلة في (والدته فائزة وشقيقه مامون وابنه مصعب وخاله امين محمد طاهر) والفنانين الشابين مصطفى البربري وصلاح ولي والشاب المهذب (حنين مزازيك) وشخصي طاقم السفارة السودانية الذي كان في وداع الطائرة تلفه الأحزان إزاراً ورداء ..!!
* انفجر مامون عبد العزيز بالبكاء بمجرد دخوله الطائرة مع أنه كان صابراً ومتماسكاً منذ وصوله مع شقيقه للأردن .. وبدأ كل من مصعب محمود وأمين في تلاوة القرآن في الكرسيين المجاورين للجثمان حيث لا تفصلهما منه سوى ستارة زرقاء ..!
* هاهو النقيب نورين الإمام من الطيران الرئاسي بجهاز الأمن الذي رافق مساعد المدير العام آنذاك في رحلته يتحرك يمنة ويسرى يواسي والدة محمود مرة ويتبادل أطراف الحديث معي مرة أخرى ..!!
* غسلت الدموع وجه المطرب الشاب صلاح ولي الذي جاء لعمان قبل يوم واحد من وفاة محمود ليطمئن عليه، بينما بكاء مصطفى البربري لم ينقطع أبداً ..!!
* العائدون من عمان يتقطعون ألماً، فما أقسى أن تأتي لوطنك وأنت تحمل نعش عزيز أحبه الجميع بعمق وعشقوه بصدق .. يسرح المرء بخياله بعيداً ويصل الخرطوم قبل أن تقطع الطائرة نصف المساحة ويبدأ في تخيل الأسى الذي يلف الناس هناك والفجيعة التي اعتصرتهم والألم الذي سكن قلوبهم .
* لو أن ركاب الطائرة المكلومة منحوا أنفسهم حق التخيل لحجم الأسية بلا حد أدنى يكبح جماح آهاتهم فإن ما حدث في الخرطوم ساعتها لن يتوقعوه أبداً ولم يكن يخطر علي بالهم ..!!
* الشاب المضيف المهذب حذيفة الحسين يضع علي الطاولة عشرات الرجاءات حتي يشرب أحد الركاب جرعة ماء أو يرتشف كوب شاي قبل أن يضع ما يحمله بين يديه ، والطاقم الأوكراني المكون من (الكابتن فيتالي والمهندس الجوي الألكسندر) والملاح الجوي (فرس) يقطع المسافات بسرعة فائقة بمساعدة أمجد عربي مساعد الكابتن السوداني والمهندس الجوي هاشم الشامي ..!
* وصلنا الخرطوم في العاشرة من مساء ذاك اليوم الحزين ووجدنا البلاد قد تسربلت بالسواد وأعلن أهلها الحداد .. وللذين ارتفعت حواجبهم دهشة لمشاهدة التشييع المهيب وغير المسبوق للفنان العبقري محمود عبد العزيز ينبغي أن نقول ان الفتى الذي فجعت البلاد برحيله قبل ثلاثة أعوام يمثل أسطورة فنية حقيقية قلنا من قبل أن الناس لن يدركوا قيمتها إلا بعد عشرات السنين، وأشرنا الي أنهم حينها سيتحسرون علي عدم احتفائهم اللائق بموهبة هذا الفنان الذي يعتبر من أجمل الأصوات الغنائية التي صافحت الأذن السودانية في العشرين عاماً الماضية، كما أنه يعتبر (المالك الرسمي) لأعرض شرفة جماهيرية أطل من خلالها فنان شاب، لذا فقد أحبه الجمهور بوله وجنون وتفان، وظل اسمه مرتبطاً بالنجاح الفني الباذخ منذ انطلاقة مسيرته الغنائية ..!!
* أحدث (انقلاباً عاصفاً) في دنيا الفن عندما صدح مغنياً بصوته الطروب القوي ونبراته الرنانة الثاقبة، لذا لم يكن غريباً هذا التشييع المهيب الذي حظي به .. تفوق على أنداده وتجاوز من سبقوه، ووضع سقفاً عالٍ يصعب الوصول اليه لكل آت من بعده ..!!
* عبقريته لا جدال حولها ونبوغه الفني يعرفه كل صاحب أذن مرهفة وذائقة سليمة .. أبدع عندما ردد أغنيات العمالقة وأمتع السامعين عندما مرت الحقيبة من بين شفتيه مسكونة بعطر الأداء الآسر ، فأستحق حزمة من الألقاب بدأت بـ(الجان) و (الحوت) وصولاً الى (الساحر)..!
* بهر أبناء جيله وأدهش معاصريه وأعاد الشباب الى حظيرة الاستماع للغناء السوداني بعد أن خرجوا خلف كاظم الساهر ولطيفة وسميرة سعيد وعمرو دياب في رحلة ذهاب بلا إياب ..!!
* عندما يردد واحدة من أغنيات الحقيبة العتيقة كـ(الأهيف) تصبح (أغنية موسم) وترددها آلاف الحناجر في كل بقاع السودان وتطرب الأبدان وترسخ بالأذهان ..!!
* نزل خبر وفاته علي الجميع كالصاعقة .. خرجت الخرطوم عن بكرة أبيها تبكي فناناً شاباً يمثل أسطورة لن تتكرر قريباً .. ذرف الرجال الدموع .. دخل الشباب في نوبات بكاء حد الإغماء .. ونحيب الفتيات وعويل النساء يشق عنان السماء ..!!
* أضاف للفن في حياته مناطقاً جديدة، واتسعت رقعة الاستماع بفضل حنجرته، وأعاد الأراضي التي سلبتها العولمة بيديه ، وها هو بـ(موته) يهب الفن الإجلال ورفعة المقام ويدفع الجميع الى إعادة قراءة المفاهيم فتشييعه المهيب ألبس الغناء ثوب السطوة والاحترام ..!!
* الأعداد المليونية التي شاركت في بكاء ومراسم استقبال جثمان محمود عبد العزيز وتشييعه لم تخرج من (تحت الأرض) فهي كانت بيننا ، وكثير ما أشرنا الى حزب (الحواتة) العريض ورصدنا تفاعلاتهم وانفعالاتهم وقلنا انهم يمثلون قوة ضاربة ، ولكن أهل الفن – ناهيك عن غير المهتمين به – شككوا حينها في شهادتنا واعتبروا إفاداتنا ومقالاتنا نوعاً من التضخيم الزائد ، حتى جاء اليوم الذي فغروا فيه أفواههم دهشة واستغراب مع أن الأمر لعارفيه لا يحتاج لكثير ذهول واستعجاب ..!!
* اللهم نسألك لعبدك محمود الرحمة والغفران ..(إنا لله وإنا إليه راجعون) .
نقوش متفرقة
* أكمل الحواتة استعداداتهم لإقامة تأبين مختلف مساء اليوم بإستاد المريخ؛ ولا غرابة أن تحتضن القلعة الحمراء ذكرى رحيل أحد ابنائها الأوفياء ممن أحبوا الزعيم وأجزلوا له العطاء ..!
* غداً نكتب بإذن الله تعالى عن علاقة (الحوت) بالزعيم وحبه الصارخ للمريخ ومجاهرته بذاك الحب الجارف في كل المنابر واللقاءات والجلسات ..!
* ظلت حواء الصفوة ولوداً تنجب الأفذاذ والموهبين وتقدم للبلاد أبرز الأدباء والمفكرين و وأميز الشعراء والفنانين ..!
* هل يريد كردنة التعاقد مع سادومبا مدرباً للياقة بنادي الهلال؛ أم أن الرجل نسى أحاديثه المتكررة عن ضرورة بناء فريق شاب و(حجوة متوسط الأعمار) ..!
* إذا أراد كردنة بلع تصريحاته التي ظل يطلقها مراراً عن التعاقد مع لاعبين صغار السن والاستعانة بشباب المحترفين، فبإمكان الناطقة فطومة معالجة القصة بتسجيل ساسا بشهادة تسنين ..!
* ساسا بالتسنين بدق الأربعين ..!
* اتسنني .. !
نقش أخير
* روح إن شاء الله في (تسنين) ..!