تحقيقات وتقارير

الزي السوداني ما بين الأعراف السائدة والتقليعات المستلبة والقانون


تدرج الزي في السودان ومر بمراحل عديدة وفقاً لتدرج الحقب والثقافات التي ما زالت بعض المناطق تحتفظ بها باعتبارها عرفاً وتقليداً لا يمكن أو يصح الحياد عنه.. ومع مرور الزمن تبلور الزي وأخذ تشكيلات وموديلات عديدة، وارتقى التبلور ليدخل موسوعة العولمة، فحدث بذلك الاستلاب الثقافي حتى وإن لم يكن يتناسب مع طبيعتنا وعاداتنا، وأصبحت بعض الملبوسات مسخاً شوه واجهة الشارع العام، واعتدى بالحرية المفترضة فيه على حرية الآخرين، ما دفع الجهات الرسمية المعنية لاستصدار مادة قانونية خاصة به، ورغم أنها- أي- المادة لم تجد حظها من القبول واستنكارها من قبل الكثيرين إلا أن العمل بها جارٍ في ولاية الخرطوم كنموذج لتزايد أرقام المخالفات، طبقاً لتزايد وفود السكان على العاصمة.. أيضاً تدرج الثوب السوداني، لكن الغبار عليه ليس كثيفاً كما في الملبوسات الأخرى.
وللوقوف على تدرج الزي والتقليعات الأخيرة منه زارت (المجهر) عدداً من الجهات ذات الصلة كالخياطين وأصحاب الملبوسات الجاهزة وأجرت استفتاء على نماذج من الشباب مستصحبة رأي الفقه.. وأخيراً جلست إلى شرطة أمن المجتمع ممثلة في رئيس فرع الجنايات، وخرجت بالكثير منه.. كل ذلك في التحقيق التالي.
{ فذلكة تاريخية
معدة البرامج والسيناريست أستاذة الإعلام والمهتمة بالتراث والفلكلور “سماح الوادي” قالت إن الزي في السودان القديم كان شبيهاً بالزي المصري، وهذا واضح في التماثيل واللوحات، لكن بعد ذلك لا ندري عن زي المرأة في الحقب التي تليه شيئاً حتى التقط الإنجليز صوراً لنساء السودان عاريات الصدور، وهو ما يعرف بالرحط الشبيه بالتنورة اليوم.. أما الثوب فقد دخل مع تبادل البضائع بين المستعمرات، فأتانا من الهند، بعضها مستوفٍ لشروط الشرع وبعضها لا، وطول الثوب حوالي أربعة أمتار ونصف المتر. وبرغم دخول الإسلام، إلا أن الحجاب الشرعي يعدّ حديث عهد، خاصة في عهد الإنقاذ. ثم رجعت محدثتنا للقول إن الصور القديمة توضح تقليد الدراما والأفلام القديمة، أبيض وأسود، من الجنسين (الفساتين القصيرة والتنانير والباروكة)، لافتة إلى أنه نسبة لغلاء الأسعار، وعدم مناسبته اليوم لأغراض الدراسة والعمل، لجأت الكثيرات للعباءة الخليجية، كزي يتناسب مع الحركة. ويمكن القول إن الزي السوداني أصبح غير واضح المعالم، ويمضي لأن يكون شيئاً فلكلورياً نسبة لغلاء الأسعار والحد من الحركة.
{ الزي في القبائل الأربع
واستطردت “سماح” قائلة إن المرأة في الشرق تميل للألوان الصارخة، والبدوية تميل للداكنة والباهتة وكذلك المسنة، لكن الأبيض يليق بالمرأة العاملة والأرملة في “الحبس”، أما المرأة في الغرب فتتميز بالجدعة التي تكون على الكتف الأيمن، وأيضاً في أواسط السودان. بالنسبة للرجل فزيه العراقي والسروال (إزار فضفاض)، وتغطى الرؤوس بالطاقية أو العمامة. أما في جنوب السودان، ففي الغالب يرتدي الرجال الملاءة بعد ربطها في أعلى الكتف، بينما يبقى الكتف الآخر عارياً (اللاوي)، ويتحلى الرجال أحياناً بأساور مصنوعة من العاج أو المعدن، وتضيف المرأة فوطة على رأسها، وقد تلبس حجلاً على قدميها من العاج أو المعدن، فيما يتميز الوسط والشمال بالألوان الزاهية حيث ترتدي النساء الفستان والثوب السوداني الذي يلف كل الجسد، وهو مشهور، والتجار والصناع يتبارون في إرضاء أذواقهن.. أما الرجل فيرتدون الجلباب الطويل الأبيض، وتوضع العمامة على الرؤوس. وبالنسبة لشرق السودان يرتدي الرجال العراقي والصديري المفتوح من جهة الصدر والسروال، ويضعون مشطاً (خُلال) على رؤوسهم لدواعي الأناقة، ويتحلون بالسيوف والخناجر. والنساء يلبسن جلباباً طويلاً ويرتدين “الفردة” (قطعة زاهية الألوان) تعلق طولياً على الجسم.
وأضافت الأستاذة “سماح” إن الرجل في جبال النوبة والقبائل النيلية يمشي عارياً، فلو ارتدى زياً حسِب الناس أن به عيباً يغطيه عن الأعين، وقد مات العشرات بعد ارتدائهم الزي بأمر رسمي من الدولة نتيجة تفاعل الشمس والقماش والعرق والأوساخ، فليست لديهم ثقافة الاستحمام، وهذا ليس بمستبعد، فهناك إناث لا يعرفن شيئاً عن هذا العصر.
{ ثقافات مستلبة ومستجلبة
ما سبق يعنى بالزي السوداني في تاريخ السودان عبر حقب مختلفة، وكذا ثقافة مناطقه المختلفة. لكن وبتطور الحياة ودخول العولمة، دخلت إلينا الكثير من الثقافات الواردة سواء مستجلبة أو مستلبة بمساعدة الفضاء المفتوح عبر الإنترنت وغيره من الوسائل المتاحة. وقال البعض إن تفصيل الملابس عفا عليه الزمن نسبة للاعتماد على الملابس الجاهزة التي أضحت ترد إلينا من المشرق وكذا المغرب.. لكن وبجولة قصيرة أجرتها (المجهر) اتضح أن سوق التفصيل ما زال رائجاً، يعمل وفق موجة وموجهات الموضة والحداثة المستقاة من “النت” والعالم الخارجي، ودلل على ذلك “الترزية” المصطفون في عدد من شوارع سوق سعد قشرة كنموذج، وصوبنا وجهتنا نحو أشهر ترزي، كما تردد، وقد طبّقت شهرته الآفاق، وعمت وسط فتيات وسيدات الخرطوم عموم، وهو يعرف بـ”بلبل” ومساعده “محمد إبراهيم عبد الرحمن” الذي شاركه الحديث حول أنواع التفصيلات وموديلاتها وأسعارها. فقال “بلبل”: (الزبونة هي التي تحدد نوع التفصيل الذي ترغبه، وفي الغالب يكون من النت، فتعرضه علينا، ومن جانبنا نطلب منها القماش حسب الأمتار التي يحتاجها).
{ تقليعات الخياطة
وعن أنواع تفصيلات الفساتين السائدة في أوساط الفتيات، فعددها “بلبل” بأن هناك السمكة، والدودة، وكباية. وهذه تكون على جسم الإنسان، ولأنه في الغالب يكون عارياً يرفق معه ما يسمى (هاف جاكيت)، أو طرحة.. أيضاً هناك فساتين (استرابلس) وهي من غير أكمام ورقبة، تبدأ بمحاذاة الصدر تلبس وحدها أو مع طرحة، وأردف محدثنا بأن من الموضة ما يسمى (شطفني)، ويكون مع الركبة وعند منتصف الساق، بجانب ذلك هناك فستان الطاووس، وهو طويل وزاحف مع الأرض، أيضاً نقوم بتفصيل الإسكيرت والتنورة والعفريتة، وبالنسبة للبناطلين فأنواعها كباية، وجيب شورت وفرنسي. والبدل كذلك أقمشتها ما بين ناعمة وسميكة.. وعن أسعار التفصيل قال “بلبل” إنها تتفاوت وتتراوح ما بين (100 ــ 200) جنيه، وكذا البناطلين ما بين (80 ــ 100).
الترزي “بلبل” ومعاونه يعملان في المهنة منذ العام 1983م، وعليه سألناهما عن أنواع الأقمشة والتفصيلات السائدة وقتها، قبل أن تتغول عليها الخامات والمسميات الجديدة التي ما أنزل الله بها من سلطان، فقال: (زمان الموضة واللبس المتداول كان الكلوش والمكشكش، ونوع الأقمشة كان: الترين، الترفيرة، الكرمبيلن، السيتان والشفون، والأخير نادراً ما يفصل، والتفصيل في الغالب كان بحمالات ورقبة مدورة أو مربعة وأحزمة. أما فستان العروس فهو في حد الركبة بكم طويل نسبياً أو كم قصير “أديني حقنة”، ولا يتجاوز قماش الفستان في بعضها المتر إلا ربع).. هذا فيما يعنى بالفترة الحالية، أما عروسات زمان وبحد قول محدثينا، فقد كن محتشمات.. وعن ما إذا كانا ينوهان أو يتدخلان في الاختيار الذي يكشف مفاتن الجسم، قال “بلبل” إنه ليس معنياً بذلك، فقط عليه أخذ أجرته، لكن معاونه “محمد إبراهيم” قال إنهم كثيراً ما يتدخلون في الاختيار ويوجهون الفتيات لكنهن يطلبن منهما عدم التدخل.
{ ملبوسات جاهزة
أيضاً كان لابد لنا من زيارة محل للملبوسات الجاهزة كعينة للوقوف على أنواع الموضة، سيما في ظل انتعاش سوق الخياطة بعد ركوده لفترة طويلة. وهذا ما أكده الشاب “أحمد عبد الرحمن” الذي يدير محل “القمة” للملبوسات الجاهزة بسوق سعد قشرة، بقوله إن بعض الفتيات يحضرن إلى المحل ويقمن بتصوير الفساتين، بأية حجة ثم يذهبن ليخيطن مثلها بنفس مواصفات القماش، الذي أصبح متاحاً.. قلنا له إن تكلفة التفصيل تفوق الجاهز أحياناً لغلاء الأقمشة وكذا أجرة الترزي، فأمن على حديثنا مبيناً أن الفساتين المعروضة تتراوح ما بين (400ــ 1000) جنيه، وقد عرضت عليه إحداهن فستاناً كلفها (650) ألف جنيه (400 قماش و250 تفصيل).. وعن أنواع الفساتين المعروضة والتي بدت جميعها عارية بلا أكمام، رغم طولها قال إن منها مقاسات كبيرة (حزام، أكسال) وفساتين قصيرة لكل الأعمار، مشيراً إلى أن الفساتين “التونك” أصبح الإقبال عليها ضعيفاً، وتحول اللبس إما لفساتين طويلة أو إسكيرت وبلوزة أو بناطلين، والأخيرة منها “الاسكني” وأخرى “جيب شورت”، و”باب الحارة” وهو أبيض بأستك في نهايته، وهو يناسب كل الأعمار وأغلى سعر للبنطال (150) جنيهاً، مبيناً أن كل نوع تناسبه تنورة بعينها ومنها الشيفون، ومنها ما هو قطني وخيط هزاز وجينز.. أما التل فيناسب أكثر الفساتين.. وعما إذا كانت هناك جهات تعمل على تفتيشهم أو فرض مواصفات عليهم نفى ذلك، وقال غاضباً: (ما مفروض زول يجيني، ويسأل، فهي دخلت السوق بصورة رسمية عبر معابر رسمية).
{ غضبة تاجر
تحدثت إلى أحد التجار وسألته عن ما إذا كانت هناك ملبوسات شفافة أو ضيقة لا ترضي الشارع العام، فوصف لي محل ملبوسات داخلية وقال لي (بالله أمشي محل كذا وشوفي الحاجات المعروضة)، فرددت: (لا بأس طالما أنها داخلية) فقال: (داخلية خليعة، ومنها ما هو ملتصق بالجسم يرتدى بالمنزل). أخذت منه وصف المكان ويممت وجهي شطر المحل المعني، ورغم أن صاحبه لم يتعاون معي إلا أن حديث من دلني صحيحاً، وكفى.
{ وللشباب كلمة
كان لابد لنا من الوقوف على رأي الشارع العام فيما يرتديه الشباب من الجنسين، ورغم اتفاقهم على أن الأمر حرية شخصية لكن مع ذلك لديهم مآخذ عليه، فقال الأستاذ “عقيل”: (ما من شك أن اللبس حرية شخصية، لكني أحسب أنها حرية تتعدى على حرية الآخرين، فكيف لي أن أتقبل النظر الذي يفرض نفسه عنوة على مشهد أقل ما يوصف به أنه مؤذٍ للمشاعر، فنحن في حراكنا اليومي في كل الأماكن نصطدم بزي، لا أود وصفه، لكنه باختصار غير إسلامي ولا يتلاءم مع العرف السوداني)، لافتاً إلى أن هناك مطاعم بعينها يلتئم فيها شمل هؤلاء، لا نستطيع ولوجها، وهنا يتأكد التعدي على حريتنا.. وبالنسبة للشباب وما يرتدون، أعتقد أنه يندرج تحت الاستلاب الثقافي. وعقب محدثنا على سؤالنا له عن اللبس في أوقات فائتة، بأن الحال من بعضه، فقد سادت في الحقب الفائتة الملابس القصيرة والعارية، لكنه عاد وعزا الأمر لطبيعة الوضع وقتها، فالمجتمع كان مفتوحاً، تسوده البارات وبيوت الدعارة المعلنة، لكن الآن حدث وعي في الدين، واطلاع واسع لا ينبغي معه وقوع ما يحدث.
فيما علقت إحدى الفتيات “في العشرينيات”، مبينة أن اللبس مسألة شخصية، ومع ذلك يجب بالضرورة مراعاة الشارع، بحيث لا يخدش الحياء، مشيرة إلى أن الأجنبيات أنفسهن يرتدين الطرحة ويتوسعن في اللبس احتراماً للشارع السوداني وتماهياً مع العرف السائد.

المجهر السياسي


تعليق واحد

  1. مافي زول خرب الزي السوداني الا المتكوزنين
    وخاصة التشكيلي راشد دياب ..
    اجمل من الجلابية البضاء والعمة البيضاء مافي