رأي ومقالات

من أجل الإصلاح… رفقاً بالمغتربين..د. ربـيع عبـد الـعـاطـي عبيد


لقد كان الاغتراب في السنوات الثمانين والتسعين من القرن الماضي، مجدياً إلى درجة مرضية، وتمكن المغتربون الذين دفعتهم الظروف إلى مغادرة الوطن والتضحية مقابل القدرة على الإيفاء بمتطلبات الأسرة، وتعليم الأبناء والبنات، من الاستجابة لما كان سبباً لاغترابهم، ودافعاً نحو إزالة عذاباتهم ومعاناتهم، وإستطاع معظمهم الحصول على ما يكفيه لبناء منزل يقي أسرته من برد الشتاء، ويأويهم من فرط حرارة الجو صيفاً عندما يعودون لمنازلهم بعد رهق وعنت بحثاً عن الرزق والعيش الحلال. ولا نستطيع القول إن الدوافع الموجبة للاغتراب قد تم القضاء عليها، والانتصار على تحدياتها، وإنما استمر الشباب يبحثون عن الوضع المناسب، والمال اللازم والرفاهية بحسبان أن عجلة الحياة لا تسير بوتيرة واحدة، وأن مطلوباتها تتضاعف يوماً بعد يوم، باعتبار أن الإنسان وفي أي وطن يعيش هو حزمة من الاحتياجات، ومرهون للمتغيرات حيث تتبدل الأحوال، وتتحول الكماليات إلى ضروريات، وما كان في الهامش من مطالب يقفز فجأة ليصبح من أهم الأولويات.
والمغتربون اليوم، ليسوا كالأمس، عندما كان المواطن يعتمد في الداخل عليهم، وأذكر أن البلاد يومها، لم يكن بها معرض واحد لبيع السيارات، وأن أية سيارة جديدة لا يستطيع أحد بالداخل شراءها، ذلك بسبب تواضع الدخول، واستشراء الفقر، ولكن لم يكن في ذلك الوقت ما نشاهده من غنى فاحش، أو مالٍ مهدر، أو صاحب ثروة قد احتكر متعة لنفسه، بدلالة أن الناس في ذلك الزمان كانوا يتقاسمون الفقر بالتساوي، وينالون من الغَنىّ ما يكفيهم خاصة إذا كان من أصحاب الأموال لكنه ملتصق بأهله في الكلاكلة والصحافة والثورة وأمبدة، وإن سكن هو شخصياً بالمنشية، أو الرياض، ولقد تغيرت ظروف الحال والمآل فلم يعد المغترب لديه القدرة على شراء منزلٍ، أو تعليم أبناء، بل ظل معظمهم ينافحون ويكافحون من أجل سد فجوة صغيرة، لتظل بقية الفجوات لديهم تتضخم، لتصبح هوة عظيمة مع دورات الأيام، ومُضي السنوات.والرفق بالمغتربين، تشهد بضرورته تلك الصفوف المتراصة منهم في فترات إجازاتهم السنوية بجهاز السودانيين العاملين بالخارج، حيث لا ترى على وجوههم ابتسامة، ولا تظهر على سيمائهم راحة، وإنما يبدو على الجسم النحول، وعلى الجبهة التجاعيد، وعلى الملابس ما يثبت أن هؤلاء قد آثروا غيرهم، وطفقوا لجلب الأزياء لأطفالهم، وأعضاء أسرهم، فنسوا أنفسهم، فكان منظرهم معبراً عن ذلك، وهم يلهثون وراء إجراءات عقيمة، ويكملون خطوات غير لازمة للعودة إلى ديار الاغتراب، بعد أن أفرغت إجازتهم ما حوته جيوبهم من دراهم وريالات ودولارات. والاغتراب، بعد أن كان، يتجه طالبوه نحو دول الخليج، قد تغيرت وجهته إلى بلادٍ أخرى بعيدةٍ، وتطور الأمر عندهم ليتحول الاغتراب إلى هجرة، وهو الأمر الذي تكمن فيه الخطورة، عندما يصبح الطلب المؤقت متخذاً شكل الديمومة، ومفارقة الوطن لأمدٍ معين ليتجه نحو اللانهاية، والأبد اللامعلوم، وهنا فإن الظاهرة ليست أقل من حقيقة الموت الذى يداهم المرء، فيذهب بعد حياة إلى حيث لا وجود ولا عودة. والرفق بالمغتربين، يصبح إزاء هذا الذي نراه، من بعثرةٍ لأسرةٍ بكاملها، قد أثرت الرحيل إلى أوربا، وأخرى ظلت باقية بالولايات المتحدة الأمريكية، أو كندا، ليس لتحسين وضع وكسب عيشٍ، ومقابلة ظرف يُرجى تبدله، ولكن انتظاراً لإقامة دائمة، أو بطاقة خضراء، لخطوة أولى لكسبٍ جنسية تؤهل صاحبها لإلقاء كلمة وداع للأبد لأرضٍ ولد فيها، ولأهل تربوا بينهم، ولمشاعر لم تعد ينبض بها قلب بفعل غياب واغتراب، ثم هجرة اقتلعت كل وصل واتصال وإحساس. والرفق بالمغتربين، هو الذي يُعيد المشاعر الميتة إلى حياتها، والذي ابتعد عن أسرته إلى حضنها، ومن ضربته الحاجة إلى وطن له، لا يجد في غيره ذلك الحب، وتلك العاطفة، وهذا الأب الرحيم، والأخ المشفق، والأم الرءوم والطفل الذي يحتاج إلى رعاية، والابن الذي يود أن يتدرج في سلم التعليم. وكلما كنا على درجة من الموضوعية والعلمية، لأصبح همنا هو البحث عن إزالة الدوافع التي تدعو لاغتراب أبنائنا، وهجرة أسرنا، ومغادرة كوادرنا العلمية وخبراتنا الأكاديمية، فنضع حداً لذلك السيل الجارف الذي يهدد مواردنا، ويضعف وحدتنا، ويشتت شملنا، فنصبح جزءاً من أمم قضى عليها الشتات، وتفرقت دماؤها بين الأمم ومختلف الشعوب. والاغتراب والهجرة، كلها ليست ظواهر موجبة، إلا بقدرٍ يسير، أما إذا تجاوز الحد فيها، فإن ذلك سيتطور إلى معضلةٍ صعبة، ومشكلة عويصة، وداء ليس أقل من المرض العضال، والسقم المميت، مما يستحيل معه إيجاد الدواء الشافى، ولنا في أهل الكهف عظة عندما قرروا العودة لمجتمع بعد ثلاثمائة من السنين وازدادوا تسعاًً، فلم يطب لهم مقام، وعلينا أن نحذر عندما لا نرفق بأبنائنا المغتربين، فندفعهم نحو غياب لا نرجو منهم بعده عودة، أو حضور. ويتمثل الحصاد الجيد من الاغتراب في قدرة قياداتنا السياسية، والتى تتولى الشأن الخاص بالعاملين بالخارج أن تستقطب تلك القدرات الهائلة لمن نالوا خبرة واكتسبوا تجربة، وهم يشاركون في بناء دول، وإسهام مميز في شتى حقول المعرفة الإنسانية. ولا يتأتى ذلك إلا بتبني سياسات تجعل من هؤلاء المغتربين لا يترددون في العودة إلى الجذور، وألا تنفصم عراهم عن موطنهم، وتراب أجدادهم، فيكون لهم القدح المعلى في إعلاء شأن بلادهم، وهم على بعدٍ منها، وعلى قدرٍ من الإصرار للبقاء فقط خارجها لوقت محدود، ثم شد الرحال مرة أخرى ليصبح الرصيد في خزانات لأهلهم، وليس رصيداً تالفاً يستهلكه بغير ثمن، ولا عقيدة وطنية، من كانوا يعيشون بينهم من الغرباء، ولا يعقل أن يكون أبناء السودان غرباء إذا خرجوا، ولا تفارقهم خصائص الغربة إذا دخلوا أرضاً بذرت بذرتهم فيها، لكنها كانت بذرة قد أثمرت شجرة فهوت بها الريح إلى مكان سحيق.

 

 

الانتباهة


‫5 تعليقات

  1. لأول مرة اسمع كلمة صادقة معبرة عن واقع المغترب في زماننا هذا كل كلمة تعبر عن حال المغترب والظلم الشديد الذي يلاقيه وان كانت الكلمة لم تشمل الكثير من المعاناة التى ربما لم يعشها كاتب المقال واول تلك المعاناة حرمان أبناء المغترب من دخول الجامعات السودانية رغم تفوقهم في الدول التي يدرسون فيها واتي تتمتع باحدث المناهج وتزخر بالامكانات العلمية التى تتيح للطالب ان ينهل العلم دون اى معاناة او نقصان في اى شيئ هذا بالضافة الى الجهد الكبير الذى يبذله اولياء الامور حتى يتفوق ابناءهم بالضافة لالتزام المغترب بدفع الضرائب والزكاة والخدمات اضافة للمساهمات الاخرى لذوى القربى والاصدقاء وغيرهم ورغم هذا كله لا يجد المغترب اى عون حقيقى من الدولةحتى في استيراد عربة تعين اسرته وابنائه الذين اضطر ان يرجعهم للسودن من اجل الدراسة وسبب صعوبة تحمل نفقات اعاشتهم للغلاء الشديد

  2. لعل القوم يسمعون اقتراحك يا أستاذ ربيع فقد كان الاغتراب في زمانكم غير زماننا، ولعل جهاز (عذاب) السودانيين العاملين بالخارج يتحرك في هذا الاتجاه ويغير من عقلية جباية رسوم تأشيرات الخروج – وقد أحسنوا من حيث لا يدرون بأن أسموها (استيفاء) – يعنى أن المغترب استوفى ما عليه من دفع الزكاة والرسوم وما يسمى ب(الخدمات) حتى يمهر له بذلك الختم الذي يحدد مصير سفره من عدمه

  3. عبد العاطي يكتب عن الاصلاح , و هو الذي لولا الانقاذ لكان حتى الان مغتربا” يدير الشقق الفندقية يبحث عن تخفيض في قيمة الشحن ليشحن اغراضه الشخصية , سبحان الله ! .

  4. يا جماعة الخبير الوطني دا ناوي الاغتراب و لا شنو؟ شكلها الحكومة القومية الموعودة دي خلت الناس العارفين ما في ليهم فيها مكان يفكروا في مستقبلهم (سمبهار) بعد أن كانوا يوزعون صكوك الوطنية و الخيانة من على مقاعد التمكين الوثيرة، و فعلا دنيا فرندقس ما لها أمان. قال صحوة ضمير قال.

  5. اول مره اقرا او اسمع كلام لربيع فيه فايده ويعبر وينافح عن المواطن .. رغم طيله الصمت السبات الكنت فيه لكنك نطقت وصدعت بالحق ورميت حجر فى بركه ساكنه ان لمن تكن جفت بعد . واغشى ان تكون تكلمت حق اريد بها باطل لكسب سياسى جديد ومنصب فى جهه ما بعد التغيرات الجديده التى نشهدها وسنشهدها بعد الحوار الوطنى الذى مضى قبل ايام