جعفر عباس

نفعكم الله بعلمي يا بريطان (2)


من باب رد الجميل لبريطانيا التي حكمت معظم بلداننا، وكانت أرحم بنا من «بلدياتنا» الذين جلسوا على كراسي الحكم بعد جلاء البريطانيين، فقد رأيت أن أعطي بريطانيا دروسا في شؤون الحكم والإدارة؛ لأنّ حالهم -بصراحة- لا يعجبني، وقد حذرتهم في مقالي هنا أمس من عواقب التخطيط لكل مشروع والانضباط المفرط في كل شيء، وكي لا أثقل على البريطانيين فإنني أحيلهم إلى الحكمة العربية الخالدة: «لو كان واردًا أن تكون للعمل نهاية أو غاية لأوكلوه إلى مقاول». يعني نحن قوم واقعيون، ونعرف أن البشرية ظلت تعمل منذ فجر الخليقة، وستظل تعمل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبالتالي فإنه لا يقدم أو يؤخر كثيرًا أن يحضر الموظفون إلى مواقع أعمالهم في المواعيد المحددة، بل إن عدم حضورهم إطلاقًا لن يؤدي إلى نهاية الكون. لكن هوس البريطانيين بالمواعيد لا ينتهي عند العمل، لأنهم يحسبون حياتهم الاجتماعية أيضًا بالثواني. والزوجة المتفرغة لأعمال البيت تحرم زوجها من الطعام إذا تأخر عن موعده بضع دقائق، والزوج يطلق زوجته إذا وضعت مولودها بعد سبعة أشهر من الحمل، لأنّ ذلك يتعارض مع «التخطيط» والبرنامج الزمني المحدد واستقبال المولود.
وبما أن البريطانيين يستطيعون دخول معظم بلدان العالم العربي من دون تأشيرة تأكيدًا لـ«خصوصية العلاقات بيننا» فإنني أدعوهم إلى زيارة بلداننا لنيل دروس خصوصية في مسألة المواعيد: أقصى التزام بالمواعيد عندنا أن يقول الواحد لصاحبه سأزورك يوم الجمعة، ثم يزوره يوم السبت. وعندنا بالطبع بعض المتطرفين الذين يحاولون تقليد الغربيين في مسألة التقيد التام بالمواعيد، فيقول لك الواحد منهم: سأزورك بعد صلاة العصر، فتضطر إلى انتظاره من الثالثة عصرًا إلى منتصف الليل، لكن هذه النوعية قليلة ومنبوذة. يكفي عندنا أن تحدد «اليوم» سواء كان الأمر يتعلق بموعد زيارة اجتماعية أو مهمة رسمية.
وبرغم ولع البريطانيين الشديد بالتخطيط و«عمل حساب» لكل شيء فإنهم يرتكبون حماقات جماعية تتعارض تمامًا وفكرة التخطيط، خذ مثلاً مليارات الجنيهات التي يضيّعونها سنويًا بحجة الترفيه خلال الإجازات: ما معنى أن يزور الواحد منهم فرنسا هذه السنة، ثم ألمانيا السنة التالية، فهذه تشبه تلك، وكلتاهما تشبه بريطانيا وثلاثتهن تعاني من المناخ السخيف نفسه: قطبي شتاءً، ومعتدل أو استوائي صيفًا.
ومصيبة هذه الشعوب أنها تضيّع أموالها في «كلام فارغ»: ما معنى وما قيمة أن يتسلق الإنسان جبلاً؟ كاميرات التلفزيون في بريطانيا ظلت مسلطة طوال شهر كامل على سيدة تسلقت جبل إيفرست من دون أن تحمل معها اسطوانة أوكسجين؟ وبدلاً من إلقاء القبض عليها بتهمة الشروع في الانتحار، قوبلت هذه السيدة بالحفاوة والتكريم، وبدلاً من أن يطلقها زوجها، كان ذلك الزوج في طليعة مستقبليها، رغم أنه تولى رعاية طفلين خلال مغامرتها الطائشة تلك.
إذا كان لا بدَّ من الوقوف فوق قمة جبل ايفرست أو أي جبل آخر فلماذا لا يتم ذلك بالنزول إلى القمة من طائرة هليكوبتر. والأدهى من كل ذلك أن البريطانيين يهجرون بلدهم في الصيف للتمدد على سواحل البحار في بلدان أخرى، مع أن بلدهم جزيرة: يعني محاطة بالمياه من 360 جانبًا. شواطئ بريطانيا الغربية تطل على المحيط الأطلسي، ولكن لا يحلو لهم التمدد على رمال الأطلسي إلا بعد دخول الأراضي الأمريكية، ثم يعبرون القنال «الإنجليزي»!!! إلى فرنسا للانبطاح على ساحل هذا القنال نفسه!!

jafabbas19@gmail.com