تحقيقات وتقارير

صعود وهبوط الانقلابات في السودان


الانقلاب الثالث كان عقب انتخابات 1986 والتي جرت بعد الفترة الانتقالية بعد انتفاضة 6 أبريل 1985 التي أزالت حكم نميري.. أُديرت البلاد في الفترة الانتقالية لمدة عام بحكومة التجمع الوطني للنقابات برئاسة د. الجزولي دفع الله ومجلس عسكري انتقالي برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب- السلطات التنفيذية كانت للحكومة، والسيادية للمجلس العسكري، والتشريع للمجلسين العسكري والوزراء..

كانت نتائج الانتخابات الخامسة لعام 1986 في 196 دائرة جغرافية و28 دائرة للخريجين أي جملة المقاعد 224 مقعداً.. نال حزب الأمة (100) دائرة، والاتحادي الديمقراطي (63)، والجبهة القومية الإسلامية (28)، والحزب القومي السوداني- جبال النوبة (8)، والمؤتمر الوطني الأفريقي (7)، وتجمع الأحزاب الجنوبية (7)، والمستقلون (6)، والحزب الشيوعي (2)، ونالت أحزاب المؤتمر الافريقي ومؤتمر البجا وحزب الشعب الفدرالي مقعداً واحداً لكل منها- منذ انتخابات 1986 شكَّل الإمام الصادق ثلاث حكومات بمسميات مختلفة، وتحالفات متغيرة وكلها لم تكن مستقرة، ساءت خلالها حالة القوات المسلحة في حروب الجنوب التي تصاعدت بعد تكوين الحركة الشعبية والجيش الشعبي بقيادة العقيد جون قرنق في العام 1983، وبدأت القوات المسلحة تفقد مدناً كبيرة في الجنوب بسبب ضعف الدعم في العدة والعتاد، وفي الشمال تصاعدت الأزمات والنقص في السلع وكثرت الإضرابات النقابية بصورة مزعجة، وفي العام 1988 نجح مولانا السيد محمد عثمان الميرغني في عقد اتفاق شامل مع العقيد جون قرنق بعد أن فشل اجتماعان للتجمع مع الحركة الشعبية في كوكادام وأمبو الاثيوبيتين- اتفاق الميرغني قرنق كان سيفضي الى وقف الحرب وحل مشكلة الجنوب تماماً، لكن تردد السيد الصادق رئيس الوزراء آنذاك في تنفيذ الاتفاق عندما قال: يمكن قبول الاتفاقية بتوضيحاتها- التوضيحات التي وضعها هو بمشورة د. الترابي، وكانت تلك وسيلة ناعمة لرفض الاتفاقية، والتي بعدها تصاعدت عمليات الجيش الشعبي في الجنوب وساءت حالة القوات المسلحة بدرجة كبيرة، واضطربت الساحة السياسية في الخرطوم، حتى تقدمت قيادة القوات المسلحة برئاسة الفريق المرحوم فتحي أحمد علي بمذكرة في 20 فبراير 1989 تطالب بتحسين الأوضاع السياسية والعسكرية في البلاد، وكانت المذكرة بمثابة انقلاب مع وقف التنفيذ.. التف السيد الصادق المهدي حول المذكرة واجتهد عضو مجلس رئاسة الدولة المرحوم ميرغني النصري في إبطال مفعولها، وأعقب ذلك تخطيطات عديدة للقيام بانقلاب من ضباط موالين لنظام مايو وتخطيط ثانٍ من البعثيين والاتحادي الديمقراطي.. ثم تخطيط ثالث من الحركة الإسلامية والتي نجحت في تنفيذ انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة العميد عمر حسن أحمد البشير وقيام ثورة الإنقاذ الوطني.

بدأت ثورة الانقاذ بقيادة الحركة الإسلامية وزعيمها د. حسن الترابي عنيفة شديدة الخصومة مع قيادات الأحزاب اليسارية وقادة النقابات خاصة المهنية، فأودعت الآلاف منهم السجون والمعتقلات المتفرقة، وأبعدت كل قوى اليسار من الخدمة المدنية تحت سياسة التمكين، واستمر هذا الحال طوال السنوات العشر الأولى من عمر الإنقاذ التي شهدت أيضاً ضيقاً غير مسبوق في كفالة الحريات للأحزاب والنقابات واستبدلت فيها كل النقابات المهنية والفئوية بنقابات المنشأة، التي تضم كل العاملين في كل منشأة، وأنشئت الاتحادات المهنية التي تعنى فقط بمشاكل ومطالب كل مهنة مثل المهندسين والأطباء وغيرهم.. في العام 1999 حدثت المفاصلة الشهيرة التي بدأت بمذكرة العشرة وتم إبعاد د. الترابي وانشقت الحركة الإسلامية بين المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، وتم اعتقال الترابي عدة مرات بعد المفاصلة.

في الفترة التي أعقبت المفاصلة نجحت الإنقاذ في:
أولاً: تكثيف العمل في مجال البترول مع الشركات الصينية حتى تم تصدير البترول في العام 1999 عبر شبكة خطوط أنابيب يفوق طولها الثلاثة آلاف كيلو متر، وهي شبكة حديثة غطت كل مناطق التنقيب في الجنوب والغرب، وقامت وزارة النفط في ذكاء شديد وبُعد نظر بإنشاء كل مراكز معالجة خام البترول الضرورية لنقله عبر أنابيب في شمال السودان.. الأمر الذي قوى موقف دولة السودان بعد الانفصال في التفاوض حول رسوم معالجة ونقل البترول.
ثانياً: أوقفت حروب الاستنزاف في الجنوب بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005 في نيفاشا بعد جولات بدأت في أبوجا- نيجيريا عام 2002 ثم ميشاكوس- كينيا 2002-2004.

ثالثاً: ازدهر الاقتصاد السوداني وارتفع معدل النمو الى قرابة العشرة في المائة في الفترة التي أعقبت نيفاشا من العام 2005 حتى يوليو 2011م، إذ توفرت كل السلع واختفت الندرة تماماً في السكر، والدقيق، والمحروقات وكافة السلع والخدمات، وانتعش القطاع الخاص بصورة غير مسبوقة وتوافد المستثمرون والعمالة الآسيوية الى السودان، وحافظ الجنيه السوداني على سعره في معدل اثنين جنيه مقابل الدولار في استقرار كامل، وكانت فترة رفاهية تاريخية في السودان.

رابعاً: تم استغلال عائدات البترول في تحسين البنية التحتية التي شملت الطرق السريعة، والكباري، والاتصالات، ومضاعفة انتاج الطاقة الكهربائية من حوالي 900 ميقاواط الى قرابة الثلاثة آلاف ميقاواط، وذلك بإنشاء سد مروي بطاقة 1250 ميقاواط، زائداً محطات توليد حرارية في بحري، وقري، وكوستي، ومدن أخرى عديدة، تم أيضاً بعائدات البترول تأهيل القوات المسلحة حتى أصبحت الآن من أقوى الجيوش في المنطقة، وتم أيضاً تأهيل قوات الشرطة حتى أضحت الآن في كفاءة وقدرات عالية.
والاخفاقات التي يسعى الأخ الرئيس في جدٍ وصدق وشجاعة الى معالجتها جذرياً، بعد أن انتقد في أكثر من مناسبة سياسة التمكين والإقصاء والتأرجح في السياسات الخارجية هي:

أولاً: ضعف الخدمة المدنية وتنامي الفساد، في هذا الصدد تحدث النائب الأول عن مشروع جاد لإصلاح الخدمة المدنية وفصلها عن الحزبية، وإعادة منصب الوكيل الدائم الى قوته وهذا الأمر يعيد النظر في سياسات التمكين والاقصاء.

ثانياً: إتاحة الحريات وإزالة الاقصاء وصولاً الى مصالحة وطنية شاملة، وذلك عبر دعوة الرئيس الى حوار الوثبة والحوار الوطني ثم الحوار المجتمعي وتأكيد الرئيس في كل مناسبة التزامه بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني والمجتمعي، وفي ذلك كله معالجة لاخفاق الإنقاذ في سياسات التمكين والإقصاء.
ثالثاً: تدهور الاقتصاد بعد تناقص عائدات البترول الذي اعتمدت عليه الدولة على حساب المحافظة على مشاريع الزراعة وتنميتها، حتى ضاع مشروع الجزيرة والمشاريع الحكومية الأخرى.. كذلك انهارت السكة الحديد والخطوط الجوية السودانية والخطوط البحرية.
رابعاً: الإخفاق في التوصل الى حل نهائي شامل لمشكلة دارفور التي بدأت عام 2003م، والاعتماد على الحل العسكري وحده الذي أضعف الحركات المسلحة، ولكنه يزيد من معاناة المواطنين ونزوحهم، ويتيح التدخل الدولي المحموم المتحامل على السودان، والذي سوف يزداد حتى يبلغ مرحلة حظر الطيران والتدخل المباشر كما حدث في العراق.

خامساً: معاداة دول الخليج ومصر خاصة بعد الوقوف مع العراق والتعاون مع إيران، هذا الأمر تم حسمه تماماً بمبادرات الرئيس القوية الجريئة مراعاة لمصلحة الوطن، وذلك بالانضمام الى الحلف السعودي وإعادة العلاقات مع دول الخليج ثم قطع العلاقات مع إيران والانحياز الى المحور العربي الذي سوف يفيد السودان كثيراً.

عليه يمكن أن نعتبر أن مخرجات الحوارين الوطني والمجتمعي هي مرحلة وثورة جديدة، سوف تفرز تغييرات كبيرة تضع انقلاب يونيو 1989 في مسار جديد يقنع المجتمع السوداني والدولي بأن السودان مقبل على مرحلة جديدة في تماسك بنسبة 80% يقوى على مجابهة التحديات والمخططات التي تسعى لوضعه في قلب الفوضى الخلاقة والتقسيم والوهن.
والله الموفق.

تقرير:عمر البكري ابوحراز
صحيفة آخر لحظة