تحقيقات وتقارير

على نحوٍ مفاجئ دخل البرلمان مضمار التحدي إزاء معركة الغاز وحبس الأنفاس عازماً على سحب الثقة عن الوزير لكنه لجأ في اللحظات الأخيرة إلى حيلة الإشراف على عائدات التحرير لتجنب المواجهة.. معركة كسر العظم


بالنسبة للبعض؛ لم يدخل البرلمان في مواجهة إلا وخسرها. وعلى نحوٍ أبلغ؛ ربما لم يدخل نواب البرلمان في مواجهة إطلاقاً لصالح ناخبيهم..!! ويكاد يكون عداد الرهان عليهم تدنى تماماً ليبلغ درجة الصفر، حتى طالتهم المزيد من النعوت الساخرة؛ (نوام البرلمان، برلمان الحكومة)، وما عداها من توصيفات، فانطمرت كل حجج المدافعة عن الحقوق في طريق ينتهي بالعجز، بينما ينسحب شتاء المعاناة تدريجياً، ليغمر كل دوائرهم الانتخابية. وقبيل أربعة أيام، وبالتحديد عشية ظهور منشور زيادة كبيرة في أسعار الغاز، كانت الأنظار كلها تتجه نحو القبة التشريعية، سيما وأنها لم تشهد ولادة تلك الزيادة.. البرلمان كان في الموعد تماماً، وأمهل الحكومة 24 ساعة للتراجع عن القرار.. وقتها انتقل التصفيق للشارع، على ما كان الحال من تصفيق النواب لقرارات الحكومة في السابق، ولكن ما الذي حدث بعدها؟!

معركة الخلاص
ثمة شعور تنامى بأن قبة الشعب ستشهد مواجهة حاسمة، لا تراجع عنها، وربما تكون معركة الخلاص الحتمية لاستعادة الثقة المفقودة، الساعات اللاحقة حبست الأنفاس تماماً، فاصل من الصمت والانتظار الطويل، تشتد سخونة الأجواء في برودة قاتلة، ويتهيأ الملعب لمعركة حامية الوطيس، يعمد النواب إلى جمع تواقيع لاستدعاء البرلمان من إجازته، تحديداً النواب المستقلين وآخرين، وعقد جلسة خلال هذا الأسبوع لمناقشة قضية الزيادات، والتلويح بسحب الثقة من وزيري النفط والمالية، في الوقت نفسه كانت الوزارات المعنية تتحرك خلف الظلال، وتحاول حشد أدوات الدولة لتمرير قرارها، بدر الدين محمود الخارج لتوه من معركة ضارية في مواجهة الصحافة، بدا مرهقاً بعض الشيء، لكنه تزود لجولة ثانية، هذه المرة في ميدان يعرف طبيعته، ويدرك كيفية استخدام الأسلحة المناسبة لإخضاعه، ولم يكن يعوزه خيار العمل من داخل كتلة الحزب الحاكم. اجتماع صغير في شارع المطار ربما يكفي لاستمالة الخصوم المحتملين، والاستنصار بالأقوى، بينما يضعف جدار النواب المستقلين، لقلة أصواتهم، ويتحولون بمعيار الأغلبية إلى محض طنين؛ أشد ما يزعج من أن ينتصر..!!

تفريغ الشحنات
يستدعي الموقف، هنا، تساؤلات عدة عن المعنى والمغزى والأبعاد؛ معنى المواجهة بين وزير بصلاحيات كبيرة ونواب مستقلين، ومغزى الاستدعاء، وهنالك عدة حيل لتجاوز حاجز البرلمان، أسهلها تجاهله، وإبعاد نظر الناخبين، وما يمكن أن تنتهي له تلك المواجهة الساخنة، لكن، وأياً ما كان شكل غبار المعركة، فإذا لم يكن وزيرا المالية والنفط تحت رحمة البرلمان، وفي موقف قابل للإذعان، تصبح لمعركة الغاز رائحة الفصول الميتة، ومجرد عرض هازئ لتفريغ شحنات غضب المواطنين إزاء الغلاء والضيق، سيما وأن تصدي البرلمان لزيادة أسعار الغاز، أو تحريرها كما تردد الحكومة، جمد كل الخيارات الأخرى.

نيران صديقة
المثير في الأمر، أن عديدا من النواب الذين يراهن عليهم الشارع لإجهاض الزيادة، هم أنفسهم غلاة المدافعين عن الزيادة؛ أشهرهم النائب علي أبرسي، والذي في برز في ثوب القاضي والجلاد، ودافع عن الزيادة من داخل البرلمان، وخرج بها إلى فضاءات الإعلام، لتصبح نيرانه البوتجازية، بمثابة نيران صديقة، مما أضعف الجبهة الداخلية.. هنا كان الشرخ الثاني. حسناً ما المطلوب من رجل مثل أبرسي، وهو نفسه تاجر غاز، وارتبطت حياته في مجال البزنس بتلك المادة شديدة الاشتعال؟ هل مطلوب منه أن يحرر شهادة وفاة لتجارته؟ وكيف يمكن ذلك؟ وهو أكثر قناعة بأنه لا مفر من الزيادة ليتمكن وهو رفاقه من الاستيراد بأقل الخسائر جراء تفاقم أسعار الدولار؟ أبرسي ومن معه أنصع نموذج لزواج المال والسلطة، كثيرون يرددن ذلك، ولا غرابة أيضاً، فإن سعود البرير في ذات أخبار “سونا” عشية التوقيعات هلل لتلك الزيادة، واعتبرها قفزة في الاتجاه الصحيح، وطلب من الحكومة تحرير أسعار الجازولين، وانسحب ذلك التأييد لمعظم رجال المال والأعمال، الذين يرتبطون بالحزب الحاكم، وكان همس الداوخل ينشد موال إفساح المجال للقطاع الخاص لاستيراد السلع المذكورة، هنا لا ينبغي أن نهمل إشارة مهمة تتعلق بالمؤتمر الوطني، كونه حزبا ينفتح على أصوات عديدة، رافضة لتلك الزيادة في بعض شخوصه، بل إن ثمة تحركات أشهرت مخاوفها بالفعل، ورأت في الزيادة ردة عن البرنامج الانتخابي، والذي كان يعول عليه في قضية معاش الناس، ها هو ذلك البرنامج يتصدع في أول امتحان بعد مرور أقل من عام على انتخاب البشير.

منطقة ملتهبة
في جهة أخرى من هذه المنطقة الملتهبة بصراعات مراكز القوى، المنتهية إلى نزاع ما بين رجال المال وأصحاب الأيديلوجيا، يذكرنا المشهد بأجواء سبتمبر، حيث خرجت حركة الإصلاح من رحم تدافع الحزب لذات الأسباب، ورفضت روشتة التقشف الاقتصادي الذي طال معاش الناس، بالطبع لا يمكن التعويل على صراع داخل المؤتمر الوطني، فقد أضحى حزبا بلا أنياب، من وطأة الضربات والانتقادات التي تلقاها، وآخرها بالطبع اجتراح تغييرات جاءت بعوض الجاز بكل ثقله التنظيمي نائباً لأميرة الفاضل في قطاع العلاقات الخارجية، وقبلها كانت نعوت الاتحاد الاشتراكي ترفرف فوقه، بخلاف السهام التي أطلقها عليه أمين حسن عمر، وقطبي المهدي، دون أن ينتفض في وجهيهما، ولأن معظم نواب البرلمان هم أبناء ذات المحنة التنظيمية، ينسحب الحال من شارع المطار إلى القبة التشريعية في أم درمان.

نهاية حزينة
ثرثرة على هامش الزيادات سرعان ما خمدت، خلال نحو أسبوع لم تكن ثمة جهة رسمية أعلنت موقفها من الزيادات، وكان الظن أن لعنة شريرة حلت بوزارة بدر الدين محمود، والحال نفسه مع وزير النفط محمد زايد عوض، لكن الرئاسة حضرت في ساعة متأخرة من نهار الخميس، تصريح خاص للرئيس البشير في وكالة الأنباء “سونا” بأن لا تراجع عن تحرير أسعار الغاز، هنا تغير كل شيء، وحل صمت مجلجل بمسامع النواب المتأهبين، رسالة الرئيس البشير من فوق الطائرة التي أقلته إلى إثيوبيا للمشاركة في القمة الأفريقية، كانت بمثابة القطع لقول كل خطيب، بدلالة “إياك أعني فاسمعي يا جارة” وفي ظرف يوم وليلة اتضح شكل النهاية لمعركة أسعار الغاز، وأعلن رئيس البرلمان إبراهيم أحمد عمر بقبول أسعار الغاز الجديدة، وأتبعها بكلمة مشروط، لتترك بعض مجال للتراجع عن الورطة التي وضع البرلمان نفسه فيها، كانت حيلة البروف الموافقة على الزيادة مقابل أن يشرف المجلس على وصول عائدات تحرير السلعة للشرائح الضعيفة، رغم أنه لم يكن ثمة أحد يعترض على على ذلك، وبدا كأن البرلمان لا يريد أن يضع نفسه في مواجهة رئاسة الجمهورية، ولسان حاله (إعصبوها برأسي وقولوا جبن عتبة).

هنا يمكن القول إن البرلمان فقد أسنانه تماماً، كثيرون سيقولون ذلك، وربما يجدون العذر للبرلمان، حيث أوضح رئيسه أن هناك اتفاقا بين البرلمان والحكومة على مبدأ سياسة التحرير بالتدريج، لكن المجلس رأى أن الوقت الذي صدرت فيه قرارات تحرير الغاز والشريحة التي اختصت بها القرارات “لم تكن مناسبة وقتا وموضوعاً” الملاحظة التي يمكن التقاطها أن ضجيج سحب الثقة عن الوزير كان يشتعل وسط النواب، لكن رئيس البرلمان ارتدى ملابس رجال الإطفاء ووضع حداً لذلك الاشتعال.

عزمي عبد الرازق
صحيفة اليوم التالي


تعليق واحد

  1. برلمان مين وكلام فارغ مين ياعم ده برلمان والا انت تقصد تقول برطمان مقفول لايصدر صوتا