مقالات متنوعة

محمد لطيف : فتح الحدود.. من وراء الكواليس؟


1
فجأة ودون مقدمات.. تبادل رئيسا البلدين تحايا غير مسبوقة.. لم تكن في مخيلة أكثرنا تفاؤلا.. في المدى القريب على الأقل.. فترسيم الحدود معضلة كبرى.. بل هو استعصاء بدا عصيا على الحل.. ورغم كل الجولات والمصفوفات والاتفاقيات.. ظل كل ذلك كأن لم يكن.. فلم يكن بالإمكان فعل أي شيء إلا بعد الاتفاق والتراضي على الحدود.. فالحد الفاصل والذي يشكل نهاية سيادة الدولة.. وبداية سيادة الدولة الأخرى يبدأ من الحدود.. والمنطقة منزوعة السلاح المتفق عليها جنوبا وشمالا.. إنما يتم حسابها من خط الحدود.. ونقاط العبور التي ستحكم وتتحكم في الحركة على الحدود بين البلدين.. إنما سيتم الاتفاق عليها وتحديدها على الحدود.. لتوضع عليها نقاط الجمارك.. ومكاتب الجوازات.. ومراكز الإجراءات الهجرية..!
نذكر أن الرئيسين عمر البشير وسلفا كير قد وقعا في السابع والعشرين من سبتمبر عام 2012 بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا على تسع اتفاقيات عالجت كافة القضايا الخلافية أو العالقة بين البلدين.. ثم تلت ذلك الخطوة الأهم.. وهي توقيع الرئيسين أيضا على ما عرفت بمصفوفة تنفيذ الاتفاقيات التسع وذلك بعد مضي نحو ستة أشهر من التوقيع على الاتفاقيات نفسها.. وذلك في الأسبوع الثاني من مارس للعام 2013.. وغني عن القول إن كل ذلك كان يتم في إطار أو تحت مظلة قرار مجلس الأمن الدولي 2046 الذي ألزم البلدين بالتعاون وإيجاد أقصى قدر من التفاهم لتجاوز العقبات التي تحول دون تطبيع علاقات البلدين بما يسهم في تكريس الأمن والسلم الدوليين.. بل إن التوقيع على ما عرفت بمصفوفة التنفيذ قد وجد احتفاء غير مسبوق لا في البلدين وعلى مستوى الاتحاد الأفريقي.. الجهة الراعية فحسب.. بل بلغ الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية ممثلة في وزير خارجيتها جون كيري شخصيا أن يصدر بيانا مشتركا مع نظيره النرويجي.. ربما كأسرع رد فعل.. في الثالث عشر من مارس 2013 قالا فيه: (إننا نرحب بالترتيبات المفصّلة التي وافقت عليها حكومتا السودان ودولة جنوب السودان، هذا الأسبوع لتطبيق جميع الاتفاقيات التسع التي وقّعها الرئيسان كير والبشير في 27 أيلول/ سبتمبر 2012. والأمر الأكثر أهمية، أن هذه الترتيبات الجديدة حددت مواعيد نهائية واضحة لانسحاب القوات من المناطق الحدودية المتنازع عليها، وأنشأت آلية مشتركة للتحقق من الحدود ورصدها ضمن منطقة حدودية آمنة منزوعة السلاح، والتزم الطرفان باستئناف إنتاج النفط وفتح الحدود الدولية أمام التجارة، الأمر الذي سيوفر دفعة حيوية إلى الأمام لاقتصاد كلا البلدين).. كان هذا هو نص البيان الأمريكي النرويجي.. ولئن تجاوزنا حقيقة ندرة أن تقول واشنطن للخرطوم أحسنت.. فالعين لا تخطئ.. رنة التفاؤل العالية التي كست ذلك البيان..!
ولعل المراقب يذكر الآن كيف أن ذلك التفاؤل المحلي والإقليمي والدولي.. قد اصطدم لا بشيء.. إلا صخرة ترسيم الحدود.. فقد كانت واحدة من أهم الترتيبات التي تضمنتها المصفوفة الترتيبات الأمنية.. التي كان السودان يتمسك بأن تسبق الترتيبات الأخرى كافة.. وكانت رؤية السودان قائمة على أن الترتيبات الأمنية لا يمكن تطبيقها على الأرض إلا عبر حدود واضحة مرسومة متفق عليها.. وربما لا يعلم البعض أن أقدام السيد ثابو امبيكي رئيس الآلية الأفريقية رفيعة المستوى قد حفيت وهو يتنقل بالخرائط بين الطرفين.. دون نتيجة.. فما الجديد الذي فتح الحدود..؟ ومن وماذا وراء الكواليس..؟ نتابع.

2
كان ذلك في أغسطس من العام 2005 حين دعيت للإفطار على مائدة الفريق سالفاكير الذي كان قد وصل إلى الخرطوم لتوه عقب سلسلة من الأحداث الدراماتيكية.. بدأت برحيل الدكتور جون قرنق وانتهت بتعيين سالفاكير نائبا أول لرئيس الجمهورية.. كان طبيعيا أن أتلقى مثل تلك الدعوة كصحافي معروف في ذلك الوقت.. غير أن ما لم يكن طبيعيا بالنسبة لي.. هو مصدر الدعوة.. فمن أبلغني قد دعاني باسم السيد بونا ملوال السياسي والإعلامي المعروف.. وبالنسبة لي فقد كان الرجل معروفا.. إذ عملت قريبا منه لسنوات مع الأستاذ محجوب محمد صالح في صحيفة الأيام.. نهاية العام 1985.. حيث كان هو شريكه ورئيس التحرير في صحيفة سودان تايمز الإنجليزية.. ورغم أنه لم تكن تربطني بالسيد بونا أية صلة إدارية أو وظيفية إلا أن مجرد وجودنا في محيط جغرافي واحد كان كفيلا بأن يطلب مني بعض المهام الصحفية.. وكنت أنفذها بحماس شديد.. فقد كان الرجل رقما يستحق التقدير.. ثم يختفي بونا ملوال.. من مشهدي على الأقل لعقد كامل من الزمان.. ثم.. مصدر الغرابة كان يوم أن وصلتني الدعوة فقد كان يقين علمي أن بونا ملوال في ذلك الوقت أبعد ما يكون عن الحركة الشعبية لخلافات كبيرة مع قيادتها.. واكتملت دهشتي حين لبيت دعوة الإفطار..!
حين دخلت بيت الضيافة.. مقر الإقامة المؤقت آنذاك للفريق ميارديت النائب الأول لرئيس الجمهورية رئيس حكومة جنوب السودان.. على شارع الجامعة بالخرطوم.. بدا لي المشهد غريبا.. حشد من أبرز قيادات الحركة الشعبية ممن نعرف في ذلك الوقت فيهم إن لم تخني الذاكرة.. دينق ألور وباقان ولوكا بيونق والحلو.. وآخرون.. يقفون في ظل شجرة داخل المبنى.. صافحتهم جميعا.. ووقفت معهم.. وفي تصوري أنها محطة انتظار.. إيذانا بالدخول.. إلا أن أحدهم قال لي وابتسامة مشتركة تجمعهم جميعا.. لالا يا أستاذ.. إنتو جوة هناك..!
وحين دلفت إلى صالون يجلس فيه السيد سالفا كير.. اكتملت دهشتي.. وأدركت معنى ابتسامة أولئك الذين يحتشدون تحت الشجرة.. كان الفريق سالفا كير بقامته الفارعة يتوسط المشهد.. غير أنه لم يكن لوحده الفارع الطول في تلك المجموعة.. كان هناك السيد بونا ملوال.. الذي لاحظت أنه كان الأقرب.. للرئيس.. في تلك الجلسة.. فحين دخلت أنا كان حديث هامس يدور بين الرجلين.. ثم تكرر المشهد طوال وجودي وعدد من الزملاء الصحفيين.. ويلاحقني شبح ابتسامة قادة الحركة الحقيقيين.. تحت الشجرة.. وأنا أتصفح وجوه المحيطين بالرئيس سلفا كير في ذلك الصباح المبكر.. فأرى الدكتور رياك مشار.. والدكتور لام اكول.. ومرة أخرى أتذكر الذين يحتشدون تحت الشجرة.. ويلاحقني شبح الابتسامة المشتركة.. وأتذكر مجموعة الناصر.. والانشقاق.. والخروج.. والعودة.. وأزداد ارتباكا.. وأهرع مستنجدا بأقرب الجالسين إلى جواري.. الزميل الأستاذ عثمان ميرغني.. رئيس تحرير الزميلة التيار.. فك الله اسرها.. وأسأله.. الحاصل شنو..؟ وبطريقته القابضة في الكلام.. يجيبني عثمان بكلمة واحدة.. انقلاب..!
ثم ……. عقد آخر كامل من الزمان يمر.. فإذا بالسيد بونا ملوال يظهر مرة أخرى.. في دور جديد..! غداً نكمل.

3
التاريخ المشترك القريب للبلدين يذكر أن وجود السيد بونا ملوال بجوار الفريق سالفا كير لم يدم طويلا.. وأن ما اعتبرها البعض محاولة من بونا للسيطرة على الحركة الشعبية آنذاك قد اصطدمت بإرادة الشباب.. الذين كانوا تحت الشجرة.. لا حبا في سلفا.. كما كشفت الأحداث لاحقا.. ولكن وفاء للراحل المؤسس الدكتور جون قرنق.. ذاك زمان قد مضى.. ولكن من يرغب في القراءة الصحيحة لأحداث جوبا اليوم.. لابد أن يقف مطولا عند وقائع ذلك الصباح الخرطومي الغريب..!
وغير بعيد عن أحداث جوبا اليوم.. وبعد عقد كامل يعود السياسي المخضرم بونا ملوال.. ويظهر على الحدود.. حدود السودان وجنوب السودان.. هي الحدود الأطول بين دولتين في كل أفريقيا.. ألف ومائتا كيلومتر.. وهي الحدود الأكثر اكتظاظا بالسكان.. على الجانبين.. وهي الحدود الأكثر حركة.. وتبادلا للمنافع.. بين الجانبين.. أيضا.. ورغم ذلك هي الحدود الأكثر توترا.. والأطول إغلاقا.. أيضا.. كل هذا.. ودوافع أخرى.. ربما دفعت السيد بونا ملوال لأن يعود مجددا إلى المسرح السياسي.. وإلى قصر الرئيس سالفا كير تحديدا.. عارضا خدماته في أن يفعل شيئا على هذه الحدود.. أو بالأحرى ناصحا سالفا بضرورة أن يفعل شيئا لتحريك الساكن.. ويعدد بونا أمام سالفا.. الخسائر المترتبة على جنوب السودان عموما.. وعلى المواطن الذي يعيش على التخوم الشمالية خصوصا.. يحدثه عن معاناة الناس بسبب إغلاق الحدود.. يحدثه عن الأثر السالب لعدم الاستقرار على دولتهم.. وعلى نظامه.. وربما حدثه أيضا.. بخبرة السياسي المحنك.. كيف أن أي مساحة يبتعد عنها يتمدد فيها خصمه.. والمعنى واضح.. ولكن سالفا الذي يستمع لبونا جيدا وحتى النهاية.. لا يجهد نفسه كثيرا.. بل يضع له العقدة في المنشار.. ويبلغه أن المشكلة ليست في جوبا.. بل في الخرطوم.. فهي التي تغلق الحدود.. وهي التي توقف كل شيء..!
ربما فات على الرئيس سالفا أن الخرطوم ليست بعيدة عن بونا.. فهو يعرفها جيدا.. ربما أفضل من سالفا.. بل ربما أفضل من بعض أهلها.. هل تنسى الخرطوم أنه وفي صبيحة الجمعة 2 يوليو 1976.. حين كان أهل الخرطوم منقسمين بين نائمين.. وهائمين لا يدرون ما يحدث من حولهم.. وعدو غير معروف.. حتى تلك اللحظة على الأقل.. يهاجم الخرطوم.. هل ينسون أن بونا وحده ومعه ساعٍ فقط.. تحمل عبء الدفاع عن الخرطوم..؟!
هكذا.. لم يكن غريبا أن أبواب الخرطوم كانت مفتوحة على مصراعيها أمام بونا ملوال.. عرض بونا بضاعته أمام المراجع العليا في الخرطوم التي أحسنت استقباله ووفادته.. ولكن ردها على سالفا كير كان مختلفا.. قالوا للرسول.. لقد تركت الحل خلفك في جوبا.. إن قوات صديقك سالفا كير.. تخترق حدودنا في ثمانية مواقع معلومة لدينا ومعلومة لديهم.. ولولا بعض رجاء في المستقبل وبعض اعتبار لحسن الجوار.. لأرسلنا قواتنا لإرجاع تلك القوات.. لن نفعل هذا.. ولكن الذي لن نفعله أيضا.. أنه لا فتح للحدود ولا تطبيع إلا بعد انسحاب القوات..!
يعود بونا إلى جوبا.. ويبذل ما يبذل.. فيطل السكرتير الصحفي للفريق سالفاكير ميارديت رئيس جمهورية جنوب السودان ناقلا لمواطنيه.. ولآذان الخرطوم التي تترقب.. قرار الرئيس بتوجيه كل الوحدات في قواته.. وفي كل المحاور.. بالانسحاب جنوبا لمسافة خمسة أميال.. فيفاجأ أهل الخرطوم بما كانت تتوقعه جوبا في الواقع.. قرار رئيس جمهورية السودان المشير عمر البشير بفتح الحدود مع دولة جنوب السودان.. وللقصة بقية..!