عبد الجليل سليمان

الخرطوم.. علينا جاي


من أنطون تشيخوف إلى مكسيم غوركي سان بطرسبرغ، نوفمبر 1899م..
عزيزي: “بطرسبرغ مدينة تثير الاشمئزاز، ومن السهل على المرء أن يغدو فيها كارهًا للناس. إنها مكان قذر. ها انقضت عليّ ثلاثة أسابيع وأنا هنا، لقد غدوت متوحشًا، تصوّر كنت في حفل عشاء ضمّ ستين روسيًا شهيرًا يعملون من المهد في سبيل طمأنينة الإمبراطور، فلم يرق ليّ ذلك، بل وشعرت إزاءهم باشمئزاز شديد”. “أتمنى لك الفرح والغبطة، وليحرسك الرب، أصافحك بقوة”. أنطون بافلوفيتش.
أكثر من قرن مضى على تلك الرسالة، إلاّ أن فكرة المدينة القذرة التي تثير الاشمئزاز وتجعل المرء متوحشًا وكارهًا للناس، لا تزال قائمة، فما الذي يجعل المدن تبدو كسان بطرسبرغ قبل مائة ونيف عام من الآن؟، بالطبع ليس من يفعلون ذلك هم المشاهير الذين ينفقون حيواتهم من أجل طمأنينة الإمبراطور، وإن كانوا مثيرين للرثاء والعطف، لكن هنالك أسبابا أخرى – سمِها – مركزية – إن شئت، كأن يصحو المواطن باكرًا، من أجل الحصول على (أوليّات) الحياة، ولا يجدها، مواصلات، غاز، كهرباء، تعليم، علاج، فرصة عمل عابرة، أو ينفق يومه كله ويبدده من أجل الحصول على جزء يسير ورديء منها.
بطبيعة الحال، هذا يحدث هنا في هذه المدينة، بل هي مدينة مثالية لتُشعِرك بالقرف والاشمئزاز، كل شيء فيها يجعل شلالات من الألم تتساقط على ظهرك، تمامًا كتساقط البؤس على هؤلاء المساكين الذين يفترشون الأرض ببضاعة رديئة وينفقون يومهم كله يهرولون خشية الحملات التي يقال إنها تنظم من أجل أن يحصل هؤلاء أنفسهم على ما يسمونها عاصمة حضارية، فيما يريدون – هُم – الحصول على الطعام في حده الأدنى.
يالها من مدينة تُدار بطريقة أشبه بنوبة الصرع أو الحلم المخيف، شديدة القسوة ومتآمرة على ساكنيها، إذ يلهثون في سبيل الحصول على مقعد متهالك في حافلة متهالكة، أو حتى موطء قدم – فقط – ولا يجدونه، يا لها من مدينة ينهض غبارها من تحت قدميك فجأة ومباشرة يلطم وجهك دونما رحمة، فيما إدارتها تتحدث عن الأرصفة والتشجير والتنجيل، تتحدث وهي تمد (لحيتها) للأمام كما ورد في قصة زيدان الكسلان – للذين درسوا المرحلة الابتدائية ذات السنوات الست.
الخرطوم مدينة، لربما أفضل ما فيها أنها تعلمك حيلاً عظيمة وتكنيكات رائعة وقدرة فذّه على العيش في وسط هذا الكم المهول من الأمور المُربكة والقاتمة، ولعل أعظم شرورها هي إدارتها نفسها، إدارة عاجزة عن جعل العاصمة مدينة أقل بؤسًا مما هي عليه بدعوى شُح الإمكانيات فيما هي أكبر جابٍ ومتحصل على الأموال في العصر الحديث، لكنها إدارة فقيرة الخيال، ضحلة الأفكار، لا ترى أكثر من (داخل محفضتها).