الصادق الرزيقي

ماتت بيشيتو!!


> في مطلع أكتوبر من العام 2014م، أمام البوابة الخارجية للبيت الأبيض الأمريكي، وقفنا، المهندس محمد خير فتح الرحمن مدير قناة الشروق والدكتور خالد التجاني وكاتب هذه السطور، وزخات مطر خفيف تلفح وجوهنا، أمام (كونسيبيكون بيشيتو)، المسنة الأمريكية (الإسبانية الأصل)، التي تقف في مكانها منذ ما يزيد عن خمس وثلاثين سنة منذ الثالث من يونيو 1981م حتى قبيل وفاتها أول من أمس، محتجة على السياسة الأمريكية وما ينتهجه ساكنو البيت الأبيض من الرؤساء الأمريكيين تجاه القضايا الدولية والانتهاكات ضد الأطفال. وعرفت بمناصرتها القوية للقضية الفلسطينية، حيث تزدان خيمتها المنتصبة أمام بوابة البيت الأبيض بصور للعلم الفلسطيني وأطفال من الأرض السليبة الذين أعلنت نضالها واحتجاجها من أجلهم، كما توجد شعارات منددة بقضايا التسلح النووي ومشاهد الدماء والعنف التي خلفتها الحروب والتدخلات الأمريكية في الشؤون الداخلية لدول كثيرة في العالم وضحاياها.
> والسيدة (كوني) هي التي ألهمت الرئيس الأمريكي تلك النكتة الشهيرة التي قالها للرئيس السوفياتي غورباتشوف أثناء قمتهما في ريكافيك في إيسلندا عام 1987م، عندما حكى له أن هناك نكتة عنه تُقال في موسكو تقول (إن عجوزاً روسية طلبت مقابلة الرئيس السوفياتي غورباتشوف في الكرملين، فقابلها وقالت له نحن نريد الحرية والديمقراطية مثل تلك التي في أمريكا، حتى أكون أنا العجوز مثل تلك السيدة الأمريكية التي تقف في مواجهة البيت الأبيض كل يوم وتشتم الرئيس الأمريكي). فرد عليها غورباتشوف..لا مشكلة يمكن أن تقفي في ساحة الكرملين في وسط المديان الأحمر وتشتمي الرئيس الأمريكي!.
> ماتت كوني ( 81) سنة في ليالي البرد والصقيع في أحد مراكز الإيواء بالعاصمة واشنطن، بعد أن أنفقت من عمرها ما قارب نصفه وهي تعارض الرؤساء الأمريكان وتعيش في خيمة صغيرة مخروطية الشكل وترفع لافتات من ورق وصور في حجم قرطاس البوستر وفمها قد تساقطت أسنانه وعربدت في وجهها التجاعيد وأبيض شعرها الكثيف، وعيناها اللتين تشبهان عيني محارب قديم من الهنود الحمر، فقدت بريقها وضعف بصرها حتى لا تكاد تتبين نوافذ البيت الأبيض الذي تقف أمامه وهي تعد الرؤساء المتعاقبين عليه على أصابيع يدها وتمسك قبضتها بهم الخمس وهي تبتسم غير مبالية.
> هذه المرأة لم تزر فلسطين قط، ولم ترَ أية بقعة من الدنيا خاصة البلدان التي تحتج من أجلها، ورسمت العلم الفلسطيني أمام صخرة صغيرة وكتبت في لافتة ذات دلالة كبيرة (هذا علم فلسطين.. من حقهم أن يتمتعوا بدولة). وكتبت(الصمت عن الانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون جريمة، ويجب تحرك المجتمع الدولي لدعم قضية فلسطين)..
> ماتت في صمت مُطبق ولم يحس بها حتى الذين اختارت البرد والصقيع والعراء ورصيف (لافيتت سكوار) من أجلهم، ظلت أيقونة الشارع المقابل للبيت الأبيض وأجبرت ملايين السياح وزوار البيت الأبيض كل عام على التوقف أمامها والتقاط الصور معها وقراءة ما تكتبه من لافتات أمام خيمتها الصغيرة، فقد كانت صامدة وشامخة كالطود الأشم في أوقات الصقيع والجليد المغطي لطبقات الرصيف، وخيمتها الصغيرة تتناوشها الرياح من كل جانب، وكثيراً ما ناضلت في القضية الفلسطينية وقضايا سباق التسلح والعف ضد الأطفال. تعيش في خيمتها وهي ترتجف من البرد، ومن يدعون الدفاع عن حقوق الإنسان في مخادعهم الوثيرة الدافئة، تتمرغ الطبقة السياسية في كل مكان في العالم في نعيم الحياة، بينما هي ومن يحمل هم العالم الموبوء بالموت والدماء والأشلاء بلا مأوى أو مدفأة أو أغطية ثقيلة، ليس لها إلا غطاء رأسها ويشبه كوفية فلسطينة تنزلق في الهواء الرطب عن جبينها الساطع وهي تشاهد ستائر النوافذ في المكتب البيضاوي من بعيد تلتمع بأضواء المكتب الذي يصنع قرارات الحرب ويصدر أوامر القتل الجماعي وينتهك كل الأعراف الإنسانية والشرائع السماوية والقانون الدولي..