عبد الجليل سليمان

نهار الخرطوم


“هل يعجبك الخبز يا أبتِ؟ قال أحد الفلاحين، بللته باللعاب. جيّد، قلت: لذيذ للغاية، شهي للغاية، متعة للفم، طعام فاخر، منتج وطني رائع، طعام جيّد لفلاحينا المُجتهدين، لذيذ، لذيذ. والحقيقة أن الخبز لم يكن سيئًا وأنا كنت بحاجة إلى الطعام، كنتُ بحاجة إلى ملء معدتي، وهكذا شكرت الفلاحين على هديتهم ونهضت، رسمت صليبًا في الهواء، وقلت: فليبارك الرب هذا البيت، وذهبت بخطىً سريعة”.
سنوات خاصم فيها السودانيون القراءة والكتابة، الآن عادوا، الكتب المعروضة على الأرصفة تحظى بإقبال (معقول)، وفعاليات القراءة الموسومة بـ (القراءة للجميع، يوم القراءة العالمي، و… الخ)، التي تُنظم في السوح العمومية صار يؤمها نفر غفير، فيما في الوقت ذاته تنفر أعدادًا متواترة من التلاميذ من المدارس الرسميَّة، إذ لا تفيدهم بالحد الأدنى من المعرفة و(الأكاديميا) التي تسعفهم – لاحقًا – لمجابهة أسئلة الخبز.
وأسئلة الخبز، هي أسئلة الحياة، وأمس كان الصبي دون الثامنة عشرة – كما بدا لي، يقلب في المقهى المجاور لمدرسته رواية (ليل تشيلي) للروائي (رُوبرتو بُولانيو)، ذاك الصبيّ حفزني على الحصول عليها – من فوري – وما كنت سمعت بها في الأصل، فكان – ومن فور حصولي على نسخة قديمة منها – أن اقتبست مقدمة (حصتي) لليوم من لدنها، وطفقت أقارب وأعاير وأقايس (ليل السودان)، وخبز الخرطوم بما ورد على لسان القسيس في ليل تشيلي، حيث سألة أحد الفلاحين “هل يعجبك الخبز يا أبتِ”، فكان أن مدحه وأثنى على مذاقه – ربما لأنه – مبلل بلعاب الفلاح.
وهنا الخبز، صار بحجم قبضة اليد، يذكرك بالعبارة الفقهية (مُد من القمح أو الشعير)، بمعنى حفنة، الخبز صار جافاً جدًا، رديء الصنعة، فقير المذاق، غادرته رائحة القمح وكأنه مصنوع من بلاستيك.
والحال يمضي على هذا المنوال، يختار الصبيّ ذاك المقهى بديلاً عن المدرسة، ويستعيض بـ (ليل تشيلي) عن نهار الخرطوم، هي رواية الخُبز والقديسين والفلاحين والأوضاع المُضطربة والسباب والهرطقة والتردي. وهنا هنا، تبدو الأمور مستغرقة تمامًا في منوال مماثل، وكأن الحياة توقفت، كأنها عاجزة عن السير، مصابة بتيبس في القدمين، لا شيء يتحرك في نهارات (الخرطوم)، الأرزاق في جمود محتكرة لدى قلة قليلة تكاد لا تكون شيئًا، والبقية كأنهم يهزون في ضلالات عمياء، حتى (الدرداقات) محتكرة بأمر المحليات، أي حرب على الرزق هذه؟ أي النهارات تلك؟
ورُوبرتو بُولانيو، يكتب في ليل تشيلي: “في تلك اللحظة توقّفت، بإصبعي على الصفحة التي كنتُ أقرأها، وفكرت: يا للهدوء. وقفت ونظرت من النافذة: يا للصمت. كانت السماء زرقاء، زُرقة عميقة وصافية مزدانة هنا وهناك ببعض السحب”. لكن سماء الخرطوم تُعلق على متنها خيوط الغبار وأشعة الشمس الحارقة ورائحة الزبالات تفوح من قوارع الطرق ومتون الأزقة، والناس يفترشونها محاربيها النتنة غير آبهين، لعلهم يجدون عندها رزقًا، لكنها.. الكشة. والكشة لأنهم يريدون الخرطوم عاصمة حضارية – بمعنى نظيفة – ربما. لكنها في الواقع قذرة جدًا ومتآمرة جدًا.