عبد الجليل سليمان

بعيدًا عن الضوضاء قريبًا من السكات


الكتابة اليومية في الصحف- فرط ضغطها عليك – كونها تجبرك على التطبيع مع السائد أو الاحتيال والالتفاف عليه حال التناقض معه، كما هو حالي وحال كثيرين من (الكتبة اليوميين)، فرط هذا الضغط تجعلك تقلب الاستفهام تعجبًا والعكس، هي نوع من الكتابة المفتعلة (الركيكة)، مقصومة الظهر، كسيرة الخاطر، لا كما تكتب قصة أو رسالة أو خاطرة عابرة، أو دردشة مع صديق أثير، كأن يكتب إليك أحدهم مثلاً “ولأن الندى عنيد مثلك تكوّر ولم يسقط، هذا العراك يملأ تفاصيلك زهوًا يُضحك الورد، تتخمر الذرة كلما استعصى الرشف”، تلك كتابات أخرى عميقة وحريفة وذات سنان وحدّين، مثلها مثل تلك الرسائل المتبادلة بين المبدعين – الرسائل الخاصة التي تكتسب عموميتها وشيوعها حين نشرها، وحين حصول (سابلة) القراءة أمثالنا على نسخ منها، حينها لا تفقد خصوصيتها كما تبادر إلى الأذهان أول وهلة، بل تنشر خصوصيتها على جموع غفيرة، تصبح أكثر عمقًا وتأثيرًا، رسائل محمود درويش وسميح القاسم، قبلها رسائل كارل ماركس وفرديرك انجلز، وبعدها رسائل محمد شكري ومحمد برادة.
والأخير، أي برادة، مهلم جدًا، كما صديقة شكري صاحب الخبز الحافي والدرر الأخرى، وهكذا حين تندرج الكتابة تحت عنوان روايته (بعيدًا عن الضوضاء قريبًا من السكات)، تأخذك الأمكنة كلها إلى بعض منها، وتحملك القراءة إلى حزمة رسائلهما المعنونة (بوح ورماد)، فتقرأ مثلاً:
عزيزي شكري
“أذكر طنجة باستمرار, وأذكرك وأتمنى لو أن الوقت يسمح بالسفر إليكم, فمدينتكم تمنحنا وهم الانطلاق والتحرر من القيود.. وآمل أن تكون قد انتظمت في الكتابة كما وعدت, وأن تجعل شعارك لهذه السنة الكتابة ضد الابتذال, وضد الجنون, وضد العنف, وضد المخلوقات الطفيلية الحقيرة. إن الكتابة في النهاية تمنحنا انتصارًا من نوعٍ خاص ضد جميع الجوانب التي نرفضها في مجتمعنا وعالمنا. بلغ تحياتي لصديقك الشاعر الإسباني خونيو, وإلى عالم طنجة الليلي الجميل”. ملحوظة: لماذا لم ترسل لنا أربع نسخ من سيرتك الذاتية لندرجها ضمن الإنتاج الذي توصلنا به بقصد النشر؟
تحياتي وأشواقي.. محمد برّادة.
تبدو الكتابة “بعيدًا عن الضوضاء وقريبًا من السكات”، أكثر عمقًا وجدوى، ولكنها ولسبب من أنها نخبوية بعض الشيء، وغير مباشرة، كما ينعتها البعض، تخاصمها الصحف اليومية، فيما نخبئها نحن، ربما ليوم كريهة وسداد ثغر، لا أدري؟ إلا أنني أرى أنه آن الأوان كي نفرج عنها قليلاً (شوية، شوية)، كأن نأتي ببعض الرحيق نحقن به مفاصل الصحف المتخشبة جراء تفاهات (ساس يسوس) الغالبة. وهكذا نزجي إليكم بعض مما كتب شكري إلى برادة (رحمهما الله)”
مستشفى الأمراض العقلية‏ – الجناح الجديد مايوركا تطوان. ‏
أفقت هذا الصباح حوالي الخامسة. المرضى نائمون. بقيت في فراشي. باب الحجرة يظل مفتوحا. الضوء باهت يدخل من الخارج, أكلت برتقالة ثم دخنت سيجارة ثم ثانية وأخذت أقرأ رواية (زمن الصمت) للطبيب النفساني والأديب لويس مارتين سانتوس,‏ قرأت ثلاثين صفحة قبل أن يستيقظ مريض يشاركني الحجرة ويفتح الراديو ليستمع إلى مختلف الإذاعات. تستهويه الموسيقى الكلاسيكية, هذا أفضل لي، يدخن مثلي, لا أملك ساعة. هو يملكها. هذا رابع عشر يوم لي في المستشفى. لا أحس بأي ملل في الاستمرار هنا.. سأذهب إلى طنجة غدا لأعود بعده، كما سبق أن قلت لك. أتمنى أن تكون ليلى قد تحسن تنفسها.‏
أيام أزمتي النفسية عام 64 حاولت ابتلاع عشرين كبسولة من مهدئ ليبيريوم. لم أستطع أن أبلع سوى خمس أو ست كبسولات عندما دخل صاحب الفندق الإسباني غرفتي وأنقذني, لم أعد أذكر كيف أسعفت. الساعة الآن العاشرة وعشر دقائق. أقرأ قصيدة (ينبوع الجميع)‏ للشاعر الإسباني مانويل:‏ الشعب كان ظمآنا‏/ ولم يكن هناك غير ينبوع واحد‏ للشرب/ مياهه كانت للجميع,‏ للشعب كله.‏ لكن الماء المنساب ينسخ السحب.‏ محبتي.‏.. محمد شكري‏.