مقالات متنوعة

د. عارف عوض الركابي : الحكمة في التفريق بين ميراث الرجل والمرأة في بعض الأحوال «2»


أواصل ما بدأت بيانه في الحلقة الماضية حيث بينت الحالات التي ترث فيها المرأة «مثل» ميراث الرجل وفي هذه الحلقة والتي تليها بإذن الله أبين المقاصد الشرعية في التفريق بين ميراث الرجل والمرأة في بعض الأحوال، فإن المقاصد الشرعية في هذا التفريق هي ما يلي:
أولاً: الاختلاف بين المرأة والرجل في نفع الميت:
إن الذكر أشد حاجة إلى المال من الأنثى لأن الرجال قوامون على النساء وقد جاءت الإشارة إلى حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث في قوله تعالى: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ». والذكر غالباً ــ أنفع للميت في حياته من الأنثى، وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: «آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً». فإنه من الأمور الواضحة إن نفع أبناء الميت له أمر متفاوت، ولكن الغالب أن الذكور أنفع للميت من الإناث، مثال ذلك إذا توفي رجل وترك ابناً وبنات فإن مسؤولية البنات والإنفاق عليهن تنتقل في شريعة الإسلام لهذا الابن، ويقوم مقام أبيه في مسؤوليته ويمتد دور الأب في ما يقوم به الابن، وهذه المسؤولية لا تتجه إلى البنت، فإن بقيت في بيت أهلها كان الإنفاق عليها ورعايتها من مسؤولية إخوانها، وإن تزوجت انتقلت للحياة مع زوجها دون وجوب أدنى مسؤولية تجاه إخوانها وأخواتها، وهذه المسألة كافية في بيان المقصد الشرعي العظيم في إعطاء الرجل مثل حظ الأنثيين. فإن التفضيل سببه ما جعل الله للذكور من القوامة على النساء والإنفاق عليهن، وخلافة الأب في ذلك.
ثانياً: الاختلاف بين المرأة والرجل في الإنفاق والأعمال:
بالنظر في الإنفاق والأعمال التي يقوم بها كل من الرجل والمرأة فإننا نجد الاختلاف الكبير بينهما، فإن الشريعة الإسلامية أوجبت على الرجل من الإنفاق ما لم توجبه على المرأة، ومن أمثلة ذلك أن الرجل هو الذي يدفع المهر في زواج المرأة وهو الذي تجب عليه النفقة على الزوجة والأبناء والمرأة لا تطالب بذلك، وفي الأعمال فإن الرجل هو الذي يطالب بحماية الثغور والجهاد وحماية النساء والدفاع عنهن، ولا شك أن مراعاة هذا التفاوت في المهام والوظائف والواجبات يتناسب معه التفاوت في مقدار الميراث، فإن وجد في بعض الحالات فهو المناسب. قال النووي في بيان الحكمة من تفضيل الرجال على النساء في الإرث: «وصف الرجل بأنه ذكر تنبيهاً على سبب استحقاقه وهي الذكورة التي هي سبب العصوبة وسبب الترجيح في الإرث ولهذا جعل الذكر مثل حظ الأنثيين وحكمته أن الرجال تلحقهم مؤن كثيرة في القيام على العيال، والضيفان ، والأرقاء، والقاصدين، ومواساة السائلين، وتحمل الغرامات، وغير ذلك». «فإن الحكمة الواضحة في ذلك أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجته وأنه أصل عمود النسب والمطالب بالنفقة على زوجته وعياله ما تناسلوا بل وعلى سائر من يرثه من أقاربه الفقراء. بخلاف الأنثى فإنها ما دامت في بيت أهلها فإنهم ينفقون عليها ومتى تزوجت أنفق عليها زوجها، فالذكر هو العنصر الأكبر والعامل الأقدر في المجتمع وهو المنوط به الدفاع والحماية والرعاية بحيث يسعى على امرأته وعياله بما يحتاجون إليه من الحاجات والنفقات ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة ومربية للبنين والبنات لما جبلت عليه من العطف واللطف والصبر على مزاولة التربية، فهي بمثابة الملكة المحشومة في بيتها تعمل عملها في إصلاح شؤون بيتها وتهدي وتتصدق بالمعروف، وزوجها مع فخره وعلو قدره يقيم نفسه مقام الخادم لها في جلب ما تحتاجه».
قال محمد رشيد رضا: «ولما كان من جملة أسباب هذا البيان ذكر تفضيل الرجال على النساء في الميراث والجهاد كان لسائل هنا أن يسأل عن سبب هذا الاختصاص، وكان جواب سؤاله قوله تعالى: «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم»، أي: إن من شأنهم المعروف المعهود القيام على النساء بالحماية والرعاية والولاية والكفاية، ومن لوازم ذلك أن يفرض عليهم الجهاد دونهن، فإنه يتضمن الحماية لهن، وأن يكون حظهم من الميراث أكثر من حظهن، لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن، وسبب ذلك أن الله تعالى فضل الرجال على النساء في أصل الخلقة، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة، فكان التفاوت في التكاليف والأحكام أثر التفاوت في الفطرة والاستعداد، وثم سبب آخر كسبي يدعم السبب الفطري، وهو ما أنفق الرجال على النساء من أموالهم، فإن المهور تعويض للنساء ومكافأة على دخولهن بعقد الزوجية تحت قوامة الرجال، فالشريعة كرمت المرأة إذ فرضت لها مكافأة عن أمر تقتضيه الفطرة، ونظام المعيشة وهو أن يكون زوجها قيما عليها، فجعل هذا الأمر من قبيل الأمور العرفية التي يتواضع الناس عليها بالعقود لأجل المصلحة، كأن المرأة تنازلت باختيارها عن المساواة التامة، وسمحت بأن يكون للرجل عليها درجة واحدة هي درجة القوامة، ورضيت بعوض مالي عنها، فقد قال تعالى: «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة»، فالآية أوجبت لهم هذه الدرجة التي تقتضيها الفطرة، لذلك كان من تكريم المرأة إعطاؤها عوضا ومكافأة في مقابلة هذه الدرجة وجعلها بذلك من قبيل الأمور العرفية؛ لتكون طيبة النفس مثلجة الصدر قريرة العين، ولا يقال: إن الفطرة لا تجبر المرأة على قبول عقد يجعلها مرؤوسة للرجل بغير عوض، فإنا نرى النساء في بعض الأمم يعطين الرجال المهور ليكن تحت رياستهم، فهل هذا إلا بدافع الفطرة الذي لا يستطيع عصيانه إلا بعض الأفراد».
إن قول الله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ». ليس هدراً لحقوق المرأة، بل حفاظًا عليه، ذلك أن المرأة أخذت حقها من الميراث، وأخذ الرجل ضعف ما أخذت، لأنه مكلف بالإنفاق عليها، ودفع المهر لها، ودفع النفقة للمعتدة، وهي غير مكلفة بذلك؛ فاختلاف نصيبها في الميراث عن نصيب الرجل إنما هو نتيجة لاختلاف وظيفتها عن وظيفة الرجل، وليس انتقاصاً لحقها، أو كرامتها، وبذلك يتبين لنا عِظَم المقصد الشرعي الذي راعته الشريعة الإسلامية في مسألة التفضيل في الميراث، والذي جاءت اتفاقية «سيداو» لتهدمه بما دعت إليه من المساواة في نصيب المرأة مع نصيب الرجل.
وأواصل بمشيئة الله تعالى