منى ابوزيد

إلجام العوام عن كثرة الكلام ..!


«الثرثرة هي حوار مع شخص لا يعاني» .. إميل سيوران ..!
لا حديث لهذا الشعب بجميع فئاته المطحونة «والمجروشة» و»المدروشة» إلا زيادة ما سيدفعونه مقابل خدمات الإنترنت بعد أن قررت بعض الشركات تغيير نظام خدماتها.. أجواء الهلع والفزع التي خيمت على عشاق الدردرشة على وسائل التواصل الصوتي والمرئي والمكتوب باتت حالاً تستحق الدراسة.. أما لماذا فلأن أقوى موجبات ذلك الحزن الدفين والسخط العارم هي الحرمان من كثرة الكلام ..!
في محاولة لتأصيل هذه الحال نقول : إن الكلام – كلام الله والرسول! – من أشهر العلوم الإسلامية التي تخصصت في تفنيد الآراء والأفعال الواردة في الدين ومقارعة الحجج بالأقاويل.. أبو حامد الغزالي – إمام المتكلمين – له رسالة طريفة أسماها «إلجام العوام عن علم الكلام»، وهي حافلة بمرارة الجدال وحلاوة البرهان، خصصها كاملة للحديث عن خطورة التقييم الخاطئ للكلام، والأضرار البالغة التي تنجم عن إفراغه من سياقاته وتجريده من دلالاته ..!
وفي مؤلفه «فصل المقال»، يؤكد ابن رشد على أهمية التفكير والجدال والأخذ والرد في تفسير القرآن .. ورغم اختلافهما في مبادئ الفلسفة، بقى كلام الله والرسول عند كليهما – وعند غيرهما من أئمة المتقدمين والمتأخرين – حقاً مكفولاً لكل مواطن، بالغاً كان أم قاصراً، عاقلاً كان أم غير عاقل، مكلفاً كان أم زول الله ساكت، حراً كان أم رازحاً تحت قيد الرق الوظيفي ..!
ولم نسمع يوماً بمواطن عوقب بالسجن أو الغرامة أو الاثنين معاً على كثرة الحديث مع الغير طالما أن الطرف الآخر لا يعتبر تجاذب أطراف الحديث أو الإمساك بتلابيب الكلام إزعاجاً يستوجب الشكوى .. لكن الهيئة القومية للاتصالات صرحت – قبل فترة – وفي خبر منشور في معظم الصحف إنها ترفض كثرة الكلام عبر الموبايل، وزعم بعض الناطقين باسمها، أن هيئتهم تتبنى مشروعاً نبيلاً لمحاربة الثرثرة الهاتفية من خلال زيادة الضريبة على سعر المكالمات، ليس لزيادة الإيرادات بل لمحاربة الثرثرة ..!
لكن الطريف هو أن بعض المسوح والدراسات تثبت أن الشعوب المدمنة على كثرة الكلام أكثر مقدرة على تحمل زيادة تعرفة المياه وغلاء أسعار الغاز والدواء من الشعوب الصامتة.. وأن جلسات الغيبة والنميمة السياسية المرتجلة في دور الأفراح وبيوت العزاء لها مفعول السحر في تفريغ شحنات الغضب والكبت والتوتر الشعبي.. أما الثرثرة الهاتفية بكل صنوفها ــــ من السباب السياسي إلى همسات العشاق ـــ فلو علمت بعض الحكومات عظيم فوائدها لطرحت مشروعاً خبيثاً لـ»مجانية الكلام» ..!
لمزيد من الاجتهاد في عدم الإضرار بمصالح الحكومة نقول إن صحيفة بريطانية وقورة نشرت – قبل فترة – دراسة علمية محققة، تثبت أهمية القيل والقال، وفوائد النميمة واللغو في المساعدة على انخفاض معدلات توتر الموظفين، وتؤكد أهمية الثرثرة في زيادة الإنتاج .. أبحاث جادة جداً شملت ألفين موظف من مختلف الأهواء والمشارب، أكدت للباحثين ـــ من خلال رصد الانفعالات وتدوين الملاحظات ــــ أن الثرثرة شأنها شأن الضحك تثير العواطف وتساعد على إطلاق هرمونات الشعور بالراحة والرضى، وتؤثر في زيادة المقدرة على التفكير الإيجابي .. وهذا يعني – ببساطة – أن ثرثرة الشعوب هي أول وأولى أسباب استقرار الحكومات.. أليس كذلك ..؟!