مقالات متنوعة

عبد الله الشيخ : مِن الفمّ للدّمْ


(كُلْكُمْ سوّادينْ)هكذا انتهرني الشّيباني اللّيبي ،وهو يعني،أننا(كُلّنا عِبيدات)!
هذا صحيح..لكن،(لي زمانك،، العِريبي أكان رَخيت ليهو،بيطلع فوق راسك)! تذكرت هذه الحِكمة،وأنا في قبضته داخل السوق القديم..هذا الليبي يريد أن يأخذني بجريرة غيري..قال أن سودانياً هرب من خِدمته، ولم يترك وراءه أثراً، غير هذا الجواز الأزرق..!
في سرت ــ مدينة القائد ــ إلتقيت إبن المحيريبا، صديق محمد علي.. كان يحدّثني عن زوربا، وعن كولن ويلسون..لم نكن وحدنا تعساء المدينة، و لا من يناغم فيها عترة البحر.. في سوق الخُدرة..الخُدرة، هي «المَلَجة» في مدن الجماهيرية.. في سوق الخُدرة، سلّم علينا محْوَلجي قطار من ناحية أبو حمد..كان يبيع «البرتكان الدمّي» ويقول لزبائنه،أنّ برتقال الصحارى يتسلل مباشرة «مِن الفمّ، للدّمْ»..!
قال محْولجي السكّة حديد أن الترابي، قصف به الى هناك..من هيئته التي رأيته بها، لا أخاله عاد مرة أخرى إلى هذا الوطن..!
بعد شهرين، من (تجضيمي) للشيباني في مدينة سرت ، كنتُ أتسكّع في حقول صرمان، بين شجر البرتقال الذي يسافر عبر الساحل إلى تونس..كان الشتاء في أواخره حين داهمنا، ثلاثة من الشباب اللّيبي..(بُطان) في عمر المدرسة، جاءوا يتسلّون بنا، في الليل..!
والدنيا ليل، غربة ومطر.. ونحن سودانيين..قلنا لازم نكرم مثواهم، حيث لا أحلى، من الفطير باللبن.!
أسرجت الصّاج للعُواسة.!
تلك الخِدمة التي تتأففت عنها في تُكُل أُمّك الحنون، تفعلها هنا،(ولا على كيفك)!
وضعت أمامهم، صحناً مُترعاً بالقرموش المعطون في الحليب… قدحاً وهيطاً،يكفي لاشباع كّلة من طيّانة أبو قُسّي..!
أكلتُها في خاطري،عندما ضحكوا..عندما نفضوا رماد سجائرهم وقالوا ( هادا عشاؤكم يا سوّادين)؟
ثم وجّهوا لي الحديث، بعد غُلبي، و تعبي،وشقاي( والله هدا نحن، نديروهو للسعيّة يا راجل)!
أكلتها في خاطري، وألحقت نفسي بـ (الياطر)،بينما كان صديقي يقرأ شيئاً من رمليات إبراهيم الكوني.. هذان اشتراكيان من زمن الجُرح،تلاقت خطاهما على اجتناب العسس، والهمس بالأحاديث الجريئة، وتجاوز الفاقة بأمنيات الشغّيلة..
شتاء المتوسط يدخل جسدي مثل السريحة..في تلك السّاعة، طارت إلى ذهني حقيقة،أن ضعف المثقّف يورثه الذُّل..!
في سوق سرت القديم،الذي يشبه سوق العناقريب بام درمان، وخزتني نظرات ذاك العجوز. عيناه الماكرتان تركتا أثراً بالغاً في نُخاعي الشوكي..! تربّصني..قبض علي من رقبة قميصي،ورفع في وجهي جوازاً سودانياً،وقال: ــ «هدا أخوك، خَنبْي..ويش أسوي لَكْ إنْتَ «..؟!
تجاهلت تهديداته وهو يقول :»ويش أسوي لَكْ إنْتَ «..؟!
نظرت إليه ببرود الصّقعة، فعلمت أن هذا النوع من الرعية يخاف الكلام..! قلت بلغة قرآنية خالية من الشّخشخة :ــ اخلع نعليك يا هذا..أنت قليل الحيلةً أمام سارق، ولا تجرؤ إلا على «لِياقة» قميصي..
ــ «شِينْ تِقول»..؟
*ماذا تريدني أن أقول..؟
(هادا أخوك، جيبلي إيّاه.. توّا توّا.. جيبلي إيّاه)
إن شاء الله يجيبوك في قُفّة.. قول يَامين..أنا شغّال في الانتربول عشان أجيبو ليك؟!
لم يفهمني، و لذلك عُدت إلى تخويفه بلسان الذي يلحدون إليه، فقلت : إذهب بي إلى القانون يا شيخ العرب
ــ (أيش من قانون)..؟!
علمت في ما بعد أن هذا الشيباني، تحاجج مع سودانيين كثر، وأطاح بهم.. لكنه هذه المرة يواجه شخصاً آخر، يحدّثه عن العدل فوق أرض يحوزها فرد، وعن حوجة أمثاله إلى تطبيق الشريعة.
قلت له:ــ القانون هو القانون..إن كنت تحتكم للشريعة، فإن القرآن يقول(ولّا تزر وازرة وزر أخرى)
تجمهر الناس، يستمعون إلى أكحل يتفوّه العربية ،كأنّها من بنات خياله..! زان الصمت المكان، فأصبح من تربّص بي أحدباً..وهو في تلك الحال عاجلته بلكزة لم يتوقّعها، كانت تلك اللّكزة هي «السِم القدُر عَشاهو»..!
لكزةٌ من فكر أخضر،عندما يسمعها سيوقن أنني مندوب القائد في هذا السوق..!
قلت مسترسلاً :ـ أما إن اردت الاحتكام إلى قانون أول جماهيرية في التاريخ ،فاعلم أيّها الشيباني،أن أبو مِنيار قد أنصف الغرباء، وقال أننا في عصر الجماهير (شركاء لا أُجراء)
قبل تتمّة المنقوص، من حِكمة الله في الرمال، كان الشيباني قد كفاني شرّه وتبدّد في الحشد، وبهذا انتفض دربي واسعاً نحو رغوة البحر..!
عند الصخيرات التي يتكسّر موجها،وقفتُ أُدندِن : (جَاي لِيه مِن بيتكُمْ ،جَاي لِيه)؟