الصادق الرزيقي

«قرود الأدب».. هل أبعثهم للحياة!..


(أ)
بات الشعر على مقربة من نار لافحة في تنافسه مع الأدب الروائي، ويكاد ينزاح قليلاً مفسحاً الطريق للرواية التي شُحنت بخيالات الشعراء وأساليبهم في تفكيك اللغة ونثرها كما العبير الفواح، فهذا زمن الرواية والحكي، وتكاد تغرب شمس الشعر في محيط متلاطم من قضايا وتفاعلات وكيمياء مختلفة العناصر، بينما تخرج الرواية اليوم من جدثها القديم وترتدي حلتها الزاهية بتطورها المذهل في التعبير عن نبضات الحياة اليومية، أكثر من الشعر الذي شحت العاطفة عبر التاريخ وتسيَّد على المشاعر، حتى اتهمه البعض بفقدان رسالته، بينما تخرج الرواية من خدرها ملتصقة بالتراب والوحل والزيت والطين والدم والخبز، تدلق الأفكار السياسية والاجتماعية وكأن الشعر خلفها رقصة من رقصات الموت والشهيق..
كان له زمنه.. ولم يزل، وكان له صولجانه وسيفه وعصاه وباروده .. ولم يزل، لكنه مثل جنرال جبرائيل غارسيا ماركيز التائه بعد أن ذهب للتقاعد ولم يعد لديه إلا نياشين قديمة وذكريات وبطولات تتلامع أمام ناظرية كفراشات ملونة وهبت نفسها وأجنحتها لألسنة النار في ليل بهيم..
(ب)
لكننا اليوم، لن نتحدث عن الشعر والرواية والتنافس الصارم بينهما، ثمة جذر واحد لكليهما كإبداعين إنسانيين نابعين من نفس مجلوبة على التفاعل والابتكار، لكن قراءات قديمة متجددة للأدب الإفريقي.. شعراءه ومدارسه وتأثره بالأدب الغربي والثقافة والفلسفة الأوروبية ثم حركة الزنوجة العالمية من بدايات القرن العشرين ونهايات القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن الماضي، والحقب الاستعمارية المظلمة والتاريخ الأسود للاضطهاد وتجارة الرقيق والسفن المحملة بالعبيد على مدى قرون، جعل الشعر الإفريقي مشدوداً إلى جذع التاريخ والمخازي والمأساة والبطولات العتيدة والنضالات الطويلة والحفر بالظفر من أجل الحرية..
لم يخرج الشعر الإفريقي من تلك الغابة الشائكة، وعبأ الشعور الإفريقي لعقود طويلة امتدت من بدايات القرن العشرين حتى وقف على حافته في سنواته الثمانين، ثم بدا هذا الضرب من الشعر يتراجع وحوله الطبول تدق كنواقيس الرحيل..!
وكونه ظل حبيساً في زنزانة النضال والبحث عن الحرية، اصطبغ بلون الدم والثورة والصياح والصراخ والألم والأمل والحناجر الملتهبة والخطابية القوية المفعمة بروح التمرد، هذا لم يأخذ منه، وأن خيالاته وتعبيراته ولغته وصوره، ظلت طازجة تخرج من بين حبيبات المطر وهدير الأنهار والشلالات وهزيم الرعود وغناء الغاب والأدغال الإفريقية العتيدة ورقصات الموت والهياج السمراء والسوداء، بينما لغته كانت هي لغة المستعمر وأساليبه. استمسك الشعر الإفريقي بالحبل السُّري الذي يربطه إلى الداخل للبطن الإفريقي التي أنجبته ويتغذى من الحياة المفعمة في القارة البكر، بينما مد أياديه للغرب للثقافة الفرنسية والإنجليزية، وتجارب السود الأمريكان وفي البحر الكاريبي وهايتي، وحتى عندما نشأت الجمعيات والتيارات والروابط التي تعتز بزنجيتها وإفريقيتها خاصة المنتسبين للثقافة الفرنسية ولسانها بسبب التعليم في غرب ووسط وشمال إفريقيا أو الغارقين في بركة الأنجلوفونية في الشرق والجنوب الإفريقي وبعض دول الوسط، إلا أن تلك النزعة كانت ترتبط في الأساس بالأفكار والحركة السياسية المناهضة للمستعمر، وبقي ظلها ماثلاً بعد الاستقلال واضمحل رويداً رويداً..
(ت)
خاض الشعر الإفريقي لما يقارب القرن بأقدامه في وحل لزج، فهو تعبير عن محنة القارة ومظالمها ونضالها وأشواق مناضليها ومثقفيها وجلهم كان من الشعراء والأدباء، فالقادة السياسيون في بعض البلدان الإفريقية كانوا كذلك من ليوبولد سنغور في السنغال الذي أسس في فترة باكرة مع عدد من كبار الأدباء الفرانكفونيين مستلهمين ما قام به المفكر المناضل الكبير (ويب دوبوا) في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1903م حين كتب ما يُعرف بإنجيل حركات المثقفين الإفريقية كتابه الشهير (روح السود) ثم أسسوا رابطة النهضة الزنجية في أمريكا التي كان شعارها «أنا زنجي فخور بزنجيتي وبالدم الأسود الذي يجري في عروقي»، وكان موج المحيط الأطلسي من شاطئه الغربي يهدي للشاطئ الشرقي منه بعض آهات السود وردهم لجميل القارة ونضالاتها بعد تعاظم الوعي، وقد كان (ويب دوبوا) ومعه (ماركوس جيرفي) فاعلاً في الفترة التي أعقبت كتابه الشهير وانتقل إلى باريس محرضاً وداعياً للحركات الثقافية السوداء أن تختط طريقها، خاصة المقيم من قادتها في باريس ومجموعات الشتات ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبرزت جمعيات وروابط كثيرة في أوروبا وأمريكا تدافع عن الحقوق الإفريقية، وبزغت شموس الكثير من المجلات والصحف والمطبوعات في العالم الغربي تنادي بذهاب الاستعمار ورد كرامة الشعوب الإفريقية ورفع الظلم عنها وجعل رايات الحرية ترفرف فوق سمائها..
(ث)
ومع ظهور (كراسة العودة إلى بلد المنشأ) لايميه سيزار عام 1939 أخذت حركة الأدب والشعر الإفريقي تأخذ سبيلها في البحر سربا، في اتجاه رفعة القيم الإفريقية وصناعة واقعها الجديد والتعبير عن الحياة الإفريقية وحضاراتها وإنهاء عهود الذل الطويلة والاضطهاد، وظهر من تلك الفترة حتي نهاية عقد الستينيات عديد الشعراء والأدباء والمثقفين السود الكبار وتبنوا تلك الأفكار السياسية والتوجهات للروابط والجميعات وصدى خطاب الأنظمة في الدول التي تحررت، ولم يخضع الشعر الإفريقي خلال تلك الفترة للضوابط والأطر اللغوية، لكنه امتلأ حتى التخمة بالشعارات والدعاية السياسية والصور والإيقاعات وموسيقى الحياة في القارة السمراء، بالرغم من أن الشاعر الكبير والمثقف والسياسي سنغور لفت الانتباه مبكراً إلى ما فعله هو نفسه بالحديث عن ظاهرة سماها (قرود الأدب)، يحتج فيها على تقليد الغرب وأساليبه الشعرية ولغته، وعلى أن يكون الإنسان الأسود وهمه الإفريقي هو أساس الهدف الشعري الأسود.
وتم تحديث اللغة الشعرية في الفترة من السبعينيات حتى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، كتعبير عن مرحلة جديدة للشعر الإفريقي وحلت الإبداعات الفردية هي الأساس بعد ضمور القضايا القارية وخروج المستعمر وتخلص إفريقيا من رزاياها ومحنتها، وخَفَت بريق الجيل المؤسس من الرواد والشعراء، واتجه الجميع من الجيل اللاحق بعد الرواد إلى الرومانسية والرمزية وابتكار لغته الخاصة وتفجيرها في تقنية أسلوبية جديدة.. مع تفاعلات جديدة في القارة سياسية ملتصقة بالحروب الأهلية والنزاعات الداخلية والكوارث الطبيعية والمجاعات والنزوح واللجوء والشركات العابرة للقارة التي بدأت في امتصاص الدم من العروق الإفريقية مرة أخرى..
(ج)
وقف الشعر على تلته وربواته، ووراءه سحاب وغيوم وأمطار كثيفة تكونت من دوره العظيم الذي لعبه، وكأنه شاخ وهرم وتوكأ على مِنسأته، وجاء جيل جديد حمل رايته، فغاص في صميم وقلب الحياة اليومية الإفريقية بكل مراراتها وعذاباتها، لكنه جيل لم يستطع إعطاء ذات الدوي الضخم للفترة التي ناهض فيها الشعر الاستعمار وتغنى له.. فمع تعدد الموضوعات والقضايا وتنوع مجالات الحياة بدأ شعرنا الإفريقي المعبر عنا يتوارى تاركاً الساحة لضرب آخر من ضروب الفن والإبداع، كغيره في أجزاء العالم الفسيح في العالم العربي وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي.. فقد أتى عصر الرواية ..!
وتبدو الساحة الروائية الإفريقية اليوم مثل رفيقتها العربية خرجت بعد مخاض طويل وعسير إلى فضاء واسع ومسؤولية ضخمة لعكس واقع الحياة ومعالجته وسبر أغواره والبحث عن المضامين الجديدة للحياة. فالرواية في تطوراتها حسب التصنيفات النقدية الحديثة، ولغتها الثرة المكتنزة، حملت معها في أحشائها خيالات الشعراء وحدسهم وتحسست الحياة الإفريقية، وها هي تعبر عنها وتأخذها إليها وتحلق بها في سماء بعيدة، في الرواية اليوم في غرب إفريقيا وشرقها وشمالها وجنوبها، في كل مكان وبكل اللغات التي تكتب بها، صارت هي سيدة الوقت والموقف والمكان بلا منازع، يتكئ الشعر عليها وتتلطف به لكنه قطعاً لن يخرج من النافذة بعد أن دخلت هي عبر البوابات الواسعة، وسيظل موجوداً وإن ظل على كرسيه هادئاً تعتمل الزفرات في صدره ويغلي الدم في عروقه وتتراقص الحياة الملونة أمامه.
(ح)
الذي يهم هنا في هذا الحديث، ليس القضية بكلياتها كما تبدو، لكن يجب البحث عن الخيط الرقيق الذي أعطى الشعر الإفريقي كل حيويته وقوته وخيالاته وصوره، من واقع القراءات القديمة وقد انقطعنا عن مضمارها إلا لماماً. إن الشعر العربي والثقافة العربية حاضرة بقوة ولها حضور غير مرئي في كثير من الأحيان في الأدب الإفريقي من ناحية الصور الشعرية والمخيلة الواسعة والموضوعات، وهذا هو تأثير المجاورة بين الثقافتين العربية والإفريقية التي حاول الاستعمار فصم عُراها وفصلها، فتأثير الثقافة الإسلامية العربية والهجرات والتواصل الحضاري القديم، أكبر وأعمق وأغزر وأبعد غوراً، من التأثير الأوروبي والغربي، وهذه قضية للبحث والنقاش والمدارسة.
ليت شاعر الكونغو الكبير جيرالد تشيكا اوتامسي كان حياً ليردد قصدته:
عيناك تتنبآن بألم..
كثلاثة أكوام.. ثلاثة تلال من رماد
ولكن.. قولي لي لمن هذا الرماد
رضخ البحر بالفعل لمراكب النخاسين
أسلم الزنوج أنفسهم..
رغم سحر ابتساماتهم
كان ناقوس الخطر يدق
ركلات في البطون
عابرات حبالى.. فرض حظر التجوال ليتحلل احتضارهم
أنوار الدغل تحيل أحلامي كوابيس
أما عني فأي جرم ارتكبته إن أنا اقتنيت القمر
هل أبعثهم للحياة؟!!..