هيثم صديق

حمل كاذب


في عهود الكبت والديكتاتوريات قبل أن ينهار ثلثاها ويرتجف ثلثها الباقي كان مظفر النواب وأحمد مطر يتصدران شبابيك جمهور الساخطين ولعقود كانا البطلين الأولين في محبة الشعوب التي تحرك أقدامها ليلاً بعد فك السلاسل وإن كان نزار قباني يشاركهما البطولة مرات لما يسخط من كثرة المحبات وأقاصيد الحب وتطويق الأذرع للخصور المياسة.
قبل البوعزيزي كان النواب ومطر يحترقان كل قصيدة في أسواق العرب وأمام قصور الحكام وقبل الواتساب كان كل من يريد أن يشتم حاكماً ينسب القصيدة لأحدهما وليقل فيها ما يشاء فهل أنهى الواتساب سطوة القصائد الحارقة أم أطفأها الربيع العربي وقد تحول نيسان وأيار وآذار إلى براميل متفجرة بدلاً من زهور وورد ووغمام.
قصيدة النورس البحري كانت عند مظفر شيئاً آخر هي مثل صبر الجمل في البازة العراقي الآخر عبد الرازق عبد الواحد، فالنورس وضع في قفص دجاج.
النورس الحزين
لم يصدق أنه في قفص الدواجن
تذكر المحيط يلصف الدجى بصمته
والموج شبّ لؤلؤاً فساح فضة
فنام في القرار هادئاً كأجمل المعادن
وحتى يحرق البوعزيزي نفسه بذل مظفر ومطر كل ما في وسعهما وما ليس في وسعهما لأجل أن يصبح أحدا ما أيقونة يبدل بها الحال ولا أدري هل لا يزالان يحلمان بغير ما بشرا به وقد ارتدت الثورات كما ارتد مسيلمة الكذاب فألف قرآناً وادعى النبوة حتى شكّته حربة وحشي.
أيها الشعب لماذا خلق الله يديك
إنما خلقهما لتحمل الحاكم من الكرسي وتضعه تحت قدميك
ولقد فعل الليبيون ذلك فحنوا إلى زمان كانوا يكرهون ناقة في خيمة قبل يصبح عليهم زمان لا ناقة عندهم ولا جمل.
والعراقيان المنفيان منذ زمان طويل دخلا في خريف العمر والربيع العربي يموت أيضاً لما صحا الشعب على الخراب، وكان من قبل يصفق للشتائم وهو يستعيذ من الشتاء بدثار ثقيل ومدفأة وإضاءة خافتة.
مطر ومظفر في منافيهما الاختيارية مثل منفيينا من الذين ينادون البوعزيزي ليحترق وأبناؤهم يلتهمون المثلجات وسخرية الشعب.
ومع ذلك فإنني أجد متعة لا تضاهى في قراءة أشعار (المحرشين) هذه حتى أصل إلى بانت شرق حيث الشاعر الكبير هاشم صديق وهو لا يزال منذ عبود يتحسس قصائده كلما لاح (كاكي) كما يتحسس أهل الكاكي مسدساتهم كلما بان مثقف.
ومن يشاهد الآن ويسمع ويقرأ ويخاف فالحرب العالمية الثالثة وربما الأخيرة تتشكل مثل غبار في الأفق وفلسطين صارت مثل الأم لما كبر الأولاد وانشغلوا بأولادهم يتذكرونها في الأعياد ويطلبونها للدعوات ويزورونها على عجل وصوت مريد البرغوثي يجلجل:
أنا بقعة من المستقبل
انشرت على الحاضر.