أبشر الماحي الصائم

هيكل.. عندما تغيب الأسطورة


* رحل أمس الأول بالقاهرة الكاتب الصحفي الأشهر محمد حسنين هيكل عن عمر يناهز الثلاثة وتسعين عاما، ويبدو لك من خلال العطاء المهني الغزير، كما لو أن الرجل عمر مئات السنين وليس بضع عقود، وحقيقة لا أعرف صحفيا جعل للإعلام العربي هيبة وسطوة ولونا وطعما مثلما فعل الصحفي محمد حسنين هيكل، رحمه الله تعالى رحمة واسعة..
* وللذين يقرأون بتطرف وأجندة مسبقة، أنا هنا أتحدث من منظور مهني بحت، لأن بيننا من يتقهقرون بالرجل إلى درجة (ﻻ تصلي عليه) وﻻ تقم لهم سيرة وذكرى.. ولئن كتبت عنهم مئات المقالات واستغفرت لهم سبعين مرة، لن يكون هيكل وزمرته من الناصريين واليساريين العرب في مقام ذكرى وعزة !! ذاك قولهم وهذا قولنا.
* مهما يكن من أمر، فإن الراحل محمد حسنين هيكل، يعد الصحافي العربي الأشهر، وقد ترك وراءه مسيرة صحفية ضخمة جداً، وخلف إنتاجا إعلاميا لا يمكن تجاوزه، فعلى الأقل قد عمل رئيس تحرير لصحيفة الأهرام المصرية في عصرها الذهبي لمدة ثلاثة عشر عاما، وذلك قبل أن يصبح وزيرا للثقافة والإعلام.
* لما كنا نحل ضيوفا على مركز تدريب الأهرام بالقاهرة منذ نحو سنوات، لاحظت أن كل المحاضرين المصريين يصدرون محاضراتهم ويختتمونها بسيرة الصحفي هيكل، ذلك لدرجة الأسطورة، سيما ما يتصل بثنائية (عبدالناصر هيكل)، حيث قيل في هذا السياق إن الصحفي الوحيد الذي يدخل على الرئيس عبدالناصر بدون إذن هو محمد حسنين هيكل، وكان الرئيس يخاطبه بقوله (يا محمد) ويقابله هيكل بخطاب (يا جمال) كانت الكلفة مرفوعة بينهما!!
* وأذكر يومها سألت أحد المحاضرين، متى التقى عبدالناصر هيكل لأول مرة !! ومن أين استمد هيكل سطوته وشهرته!! من ممارسة مهنية جديرة أم صنع مجده مستفيدا من علاقته عبدالناصر!! وهل تنصح ناشئة الصحفيين بالاقتراب من الحاكم!! لم يصدق الرجل ساعتها أن كل المحاضرة قد انفتحت على هيكل الذي يمثل لهم (نصف نبي) وبعض إلهام.. فقال مبتسما: إيش اسمك. قلت: البشير.. قال: شوف يا بني.. هذا سؤال ممتاز جدا.. وقد سُئل عبدالناصر ذات السؤال.. لماذا يقرب هيكل دون سائر الصحفيين.. قال عبدالناصر يومها.. “إن كل الصحفيين يسألوننا عن الأخبار ونحن في المقابل نسأل هيكل عن الأخبار”!!
يقول الرجل.. تحدث هيكل ذات يوم عن هذا الموضوع.. قال انتبهت ذات يوم إلى أن ضابطا شامخا يدخل مكتبي بالأهرام. وانتبهت أكثر إلى إنه يطلب مني كتابا لأحد الكتاب القوميين. كان ذلك في 19551 قبل الثورة بعام.. ولم يكن ذلك الضابط إلا جمال عبدالناصر!! على أن هيكل لم يطلب شيئا من عبدالناصر لدرجة أنه أرخ إلى بداية نهايته بيوم تعيينه وزيراً للإعلام.. يرى هيكل أن الصحفي يفترض أن يبقى صحفياً، وليس هناك أعظم من ذلك !!
* وأتصور أن الذي يستحق النعي أكثر – في هذا السياق – هو الإعلام المصري، الذي يعيش حالة تراجع كبيرة بعدما كان يسيطر إبان جيل هيكل على كل المشهد الإعلام العربي، حتى هيكل نفسه يوم أن أراد أن يوثق لتجربته تلفزيونيا لم يجد إلا قناة الجزيرة.
رحم الله الراحل الصحفي محمد حسنين هيكل، وجمع الأمة على أمر رشد إعلامي يرفع به صوت القيم والكرامة وتعز به الأمة وتنتصر.. “إنا لله وإنا إليه راجعون”، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.