إغتصاب (ج) !!

* الفرحة العارمة التي انتابت جموع الشعب السوداني، والحكام والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، بفوز مدرسة ابتدائية ببطولة رياضية (غير مصنفة وغير معروفة) لأطفال المدارس الابتدائية، يرعاها تلفزيون مغمور في برامج ومسابقات وألعاب الأطفال، تدل على الحالة المأساوية المزمنة التي نعيش فيها، والفرح المؤود في نفوسنا بالهزائم والاخفاقات والأزمات والمشاكل والحزن واليأس والقهر والخيبة، لدرجة أننا لم نُصدّق فوز أطفال ببطولة مدرسية مغمورة نظمتها محطة تلفزيونية لم يسمع بها أحد لنظهر كل هذا الفرح، ونقيم المواكب والاحتفالات والمهرجانات الضخمة، وكأننا فزنا بكأس العالم، ثم يأتي بعد كل ذلك من يسرقها ويتاجر بها وكأنه من صنعها!!
* لا أريد أن أبخس من قيمة الفوز الذي حققته مدرسة (محمد عبدلله موسى) ببطولة(ج) لكرة القدم للأطفال التي يرعاها تلفزيون (جيم) بدولة
(قطر) المتخصص في برامج الأطفال والمسابقات، خاصة أن من حققه أطفال يستحقون، وبقية الأطفال، كل التشجيع وزرع الثقة في نفوسهم واحاطتهم بالرعاية والاهتمام في كل مجالات الحياة، منذ ولادتهم وحتى يكبروا ويتحملوا المسؤولية، بدون أن تلفتنا الى ذلك بطولة قد نفوز بها
هذا العام ونفشل في الفوز بها أعواما طويلة قادمة، وإنما هو الواجب الذي يجب ان يستمر باستمرار الحياة، فالأطفال هم عماد المستقبل وصناع الغد، وبدون أن نهتم بهم وننشئهم النشأة الصحيحة، ونوفر لهم كل مقومات الحياة السليمة وأقصى درجات الأمان والاستقرار، فلا أمل لنا في الخروج من الحالة المزرية التي نعيش فيها والتقدم الى الامام، وسيظل كل جيل قادم يكرر نفس أخطاء الأجيال السابقة، ويعيد صناعتها وانتاجها بحذافيرها، إن لم يكن بشكل أسوأ.. وكلنا نعرف ذلك ونحفظه عن ظهر قلب ولا نحتاج لمن يعيده على مسامعنا، ولكننا للأسف لا نطبّقه، ولا نحاول تطبيقه، وهنالك من يسعى لإعاقته!!
* انظروا الى ملايين الاطفال الذين تنقصهم الرعاية الصحية والتعليم والتربية العقلية والروحية والبدنية، بل ولقمة العيش التي تقيم أودهم، دعك من تنمية أجسامهم .. كم من طفل سوداني يعيش مشردا وسط اكوام القمامة والنفايات وصواني المرور متسولاً ما يقيه وحش الجوع الذي يفرم مصارينه الهشة، وكم من طفل تقصف روحه الطائرات وتمزق جسمه الألغام، وتطارده عربات الدفع الرباعي المزودة بمدافع الآر بي جي حتى يسقط ميتاً من الرعب.. بدون أن يؤثر فينا هذا المشهد الفظيع؟!
* كم من طفل لا يسمع إلا كلمة (لا)، ولا يجد إلا الضرب والإزدراء، في البيت أو المدرسة أو الشارع، دعك من أن يحلم بالعثور على ملعب أو مرسم أو حتى كراسة رسم، أو آلة موسيقية أو مرشد يصقل مواهبه، ويضع قدمه على الطريق الصحيح، ليصبح في المستقبل رياضيا بارعاً أو موسيقيا فذاً أو رساماً ماهراً أو شاعراً عبقريا .. كم من ملايين المواهب دفنوا في مقابر اهمالنا وعدم مبالاتنا وازدرائنا وتعسفنا وقلة إدراكنا وجهلنا؟!
* لقد كانت مدراسنا وبلادنا تعج ذات يوم بالملاعب والمسارح وحصص الفنون والتربية الرياضية والألعاب والاقتصاد المنزلي المفتوحة للجنسين، فجاء الوحش واقتلع كل ذلك وفرض على الصغار حصص الجهاد والقتال وسفك الدماء، وانتهك طفولتهم البريئة بقصص الرعب والموت والخرافة والجهل، وطارد الجميع بسيطان النظام العام، ويأتى اليوم ليسرق من هؤلاء الشفع اليفع المساكين بطولة صغيرة جدا على قدر آمالهم وأحلامهم فازوا بها بدون عون أو مساعدة منه، ويتاجر بها ويجعل منها مناسبة للخطب والمهرجانات لمداراة فشله وخيبته وتدميره للطفولة، والتربية، والتعليم، والرياضة، والخير، والنماء، والحياة، وكل ما هو جميل في البلاد التي اغتصبها ذات ليل بهيم وعاث فيها فساداً ونهباً وظلماً، ولا يزال!!

Exit mobile version