الطيب مصطفى

هل ماتت؟!


> أمر محزن للغاية، أن تتعثر أوضاع بعض مراكز البحث العلمي ومعاهد الدراسات والبحوث، خاصة تلك المسجلة كمنظمات مجتمع مدني أو تتبع لجهات رسمية وغير رسمية، وأن تلفظ مثل هذه المراكز أنفاسها أو تقبر غير مأسوفٍ عليها، أو تواجه شبح التوقف النهائي، لهو كارثة وطنية تكاد تحل بنا يجب تداركها، وهو أيضاً تراجع مقلق ومفجع للوراء، فعملية البحث والدراسات العلمية في مجالات الحياة الحيوية خاصة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والغوص في لب الموضوعات ذات الطبيعة الاستراتيجية والاهتمام بها، هي عملية تتصل بالوعي العام وتشكيل العقل الجمعي في سبيل تحصيل المعلومات الحقيقية وتبصير الرأي العام والمجتمع بما يجري حوله وفي داخله، وتدعم مثل هذه المراكز مواقع صنع القرار والحركة السياسية وتمدها بما تحتاجه من معلومات وآراء وأفكار وبيانات تساعد في اتخاذ القرار السليم والموقف المناسب، وتجعل من الخطاب السياسي وحركة الدولة والمجتمع والنخب العاملة في المجالات المختلفة تستند إلى حقائق واضحة وتقديرات مفحوصة وسليمة.
> نسوق هذا الحديث وقد تواترت أنباء عن حل أو توقف عدد من مراكز الدراسات والبحوث التي كانت تقوم بجهد قيم ومقدر في الميدان الاستراتيجي والسياسي والأمني والاقتصادي، مثل مركز دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا ومركز دراسات العالم الإسلامي، ومعاناة المركز العالمي للدراسات الإفريقية الذي يكاد يتوقف نبضه إلا من خفقان ضعيف بسبب ضعف التمويل وقلة ذات اليد.. فهذه الأخبار إن صحت، فذلك يعني أن الدماغ العلمي المتخصص في مضمار الدراسات السياسية والاستراتيجية سيصيبه شلل قاتل، فمثل هذه المراكز تتوفر بحكم عملها على تقارير ومعلومات ومنهجيات علمية ترتكز على ضوابط وقواعد البحث العلمي المحكم تكون ثمارها واستخلاصاتها هي المرشد في التعامل والتعاطي الصحيح مع الأقضية التي تواجه صناعة القرار.
> العالم كله يتجه إلى تعزيز مكانة مراكز الدراسات والبحوث السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، وتعتمد الدول المتقدمة خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين وغيرها من الدول ذات النفوذ الدولي، على الأدمغة العلمية والخبرات الاستراتيجية وأصحاب التجارب العميقة في رفد السلطة السياسية والنخب والمجتمعات بدراسات وتقارير يتم الاستهداء بها في اتخاذ القرارات والمواقف في القضايا الدولية والإقليمية والهموم العالمية، وصارت هذه المراكز في الغرب والدول المتقدمة أحد أضلاع السياسة والقرار السياسي، كما أن القرارات السياسية الدولية والتوجهات لفاعلة للسياسة الخارجية للبلدان المذكورة، تصنع في هذه المراكز وتعد بدقة ثم يدفع بها إلى منصة إصدار القرارات.
> وبما أننا نعيش في بيئة إقليمية متحولة ومتغيرة، وواقع دولي متأرجح بنظامه المضطرب الحالي وهو في مرحلة تكوين جديد، تحديات داخلية وخارجية ووضع اقتصادي يحتاج إلى رؤية عميقة تعالج علله واختلالاته، فالحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى، إلى اعتماد دور جديد ومتجدد لمراكز البحث والدراسات الاستراتيجية والاجتماعية والاقتصادية، وإفساح المجال للعقول السودانية الناشطة في هذا المجال، فالإقليم حولنا يعج بقضايا ومشكلات حادة وحروب وتفاعلات قوية، يجب رصدها ومعرفة اتجاهاتها ونتائجها وما يمكن أن يتمخض عنها، وهناك محاولات تجري على قدم وساق لإعادة تركيب المنطقة العربية والإفريقية، وتتغير كل يوم التحالفات والمواقف والتوجهات، بما يجعل متابعتها ومعرفة مضاعفاتها وتداعياتها أمراً لازماً، بنفس القدر الذي ننظر به إلى فيزياء التحول الجاري فيها من حالة الجمود إلى السيولة الكاملة وتأثيراتها على بلادنا.
> ومن هنا نناشد الدولة تشجيع المراكز العلمية المتخصصة في هذا الضرب من الاهتمام، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ودعم هذه الحاضنات العلمية حتى تدب فيها الحياة من جديد، ولا بد من صياغة هذه المراكز صياغات جديدة لتستوعب أفضل العقول السودانية وأصحاب الخبرة، وأن يكون لها إنتاج مستمر شهري أو أسبوعي أو دوري، وتقارير استراتيجية تصدر وكراسات دراسية وحلقات مدارسة مكثفة تتيح الفرص للمهتمين للحوار والنقاش، وكل ذلك يصب في المجرى العام للحكومة لتستفيد منه في قراراتها وسياساتها واستراتيجياتها تجاه القضايا الدولية والمنطقة والإقليم.