مقالات متنوعة

د. عارف عوض الركابي : رصيد «الأحزاب الطائفية» .. بين الماضي والحاضر!!


فقدت «الأحزاب الطائفية» في زماننا المعاصر كثيراً مما كانت تمتلكه في عقود سابقة، وتركها كثير من «الأتباع» وزهدت فيها كثير من «المناطق» التي كانت توصف في عهود سابقة بأنها «مقفولة»!!، ومما لا شك فيه أن اختلاف الطرح الحالي لدى تلك الأحزاب عن الطرح في العهود السابقة ـ بغض النظر عن موافقته في السابق للحق أم لا ــ والمواقف الكثيرة غير الموفقة والتي من أبرزها بعض التحالفات التي قامت بها تلك الأحزاب، إضافة إلى الفجوات الواسعة بين «زعماء وأسياد» تلك الأحزاب وبين «أتباعهم» وعدم التواصل معهم، وأعني بالتواصل – ولو معنوياُ فقط -، هذا وغيره كان من أسباب هذه النتائج المتوقعة سلفاً.
هذه مجرد إشارة وإلا فإن الأمر بحاجة إلى مزيد بسط لتناول أسباب ما نراه في الواقع الذي تعيشه الأحزاب الطائفية، وإن اختلاف طرح هذه الأحزاب واختلاف برامجها عما كانت عليه هو من أهم أسباب ما آلت إليه هذه الأحزاب، فإن الجميع يعلم أن الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة ــ على سبيل المثال ــ كان لهما أغلبية من حيث التأييد في السابق، وما كان لهاتين الطائفتين أن يحصلا على هذا التأييد في السابق إلا لأن هذه الغالبية كانت ترى أن هذه الأحزاب تتبنى الإسلام وأنهم بتأييدهم لها ينصرون الإسلام الذي تتبناه في ما تظهره تلك الطوائف من شعارات، وهذا الذي جعل آباءنا وأجدادنا يحفظون ــ مثلاً ــ مولد الختمية وغيره مع أن أكثرهم أمي لا يقرأ ولا يكتب فيحفظ تلك القصائد والتعاليم عن ظهر قلب، ويرددون تعاليم الطريقة، ويهتفون في تلك القرى والفيافي رغم أحوالهم ومعاشهم يرددون «نحن نؤيد حزب السيد» وقل بمثل ذلك في طريقة الأنصار، فاستغلت تلك الأحزاب العاطفة الإسلامية وحب الدين لدى هؤلاء الأتباع، مع عدم وجود تفصيل في نقد علمي صحيح للأخطاء الكثيرة والكبيرة في معتقدات وبدع تلك الطرق وعرضها على ميزان الكتاب والسنة، وتوضيح المعتقد الصحيح والطريق السليم للتعبد لله سبحانه وتعالى وهو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ولكن كثيراً من الأتباع قد التمسوا ــ مؤخراً ــ أن الأمر لم يكن كالسابق، فهناك تخلي عن أولوية قضايا الدين، فهناك اختلاف جوهري في الطرح واهتمامات هذه الأحزاب، بل واستمعوا للتصريحات الواضحة والمتكررة لبعض الزعماء بسعيهم لإقامة دولة علمانية، علاوة على التحالفات التي بدأت بما عرف بالتجمع الوطني انتهاء بتجمع جوبا والتي كانت موضع إنكار لدى كثير من هؤلاء الأتباع، فليقارن هؤلاء الزعماء والسّادة بين أطروحاتهم السابقة وحالهم الذي آلوا إليه، فقد استصغروا عقول أتباعهم، ظناً منهم أن التبعية مستمرة مدى الحياة، ويضاف إلى ذلك أن من أسباب تغير قناعات كثير من الأتباع «الفجوات الكبيرة» بينهم وبين هؤلاء «الأسياد» و«الزعماء»، فإن النفس البشرية تأنس إلى من يتفقد أحوالها، وينشغل بهمومها، ويسعى في مصالحها، ولو بالكلمة الطيبة والسؤال عن الحال فقط، فهل كان التواصل بين هذه الزعامات وقواعدها خلال العقود الماضية موجوداً ولو بالحد الأدنى منه؟! أم أنهم أتوا إليهم يوم احتياجهم لأصواتهم وتأييدهم؟! ثم أعطوهم ظهورهم بعد ذلك؟!
وقد زرت مرة إحدى قرى الولاية الشمالية ووجدت أن طلمبة الماء لديهم معطلة ورأيت أن النساء يذهبن لإحضار الماء من النيل مباشرة على بعد أكثر من اثنين كيلو متر يحملن «الجرادل» على رؤوسهن في معاناة بالغة، وقد سألت عن العطل فقيل لي ان الطلمبة سعرها عشرة ملايين جنيه، وقالوا: لقد حاولنا ولم نجد من يدفع، وأخبرني بعضهم أنهم ذهبوا للشيخ «…..» بالخرطوم الذي يتبعونه ويتبعون طريقته التي أسسها جده وأبوه تبعية «مطلقة»، ولهم ولاء له وحب كبير، بل وفي أعناق كثيرين منهم بيعة له تجدد كل حين!! ــ والمعلوم أن البيعة الشرعية هي بيعة المسلمين للحاكم المسلم وما سواها فهو من البدع والمحدثات ــ والمعلوم أن الشيخ المعني يستطيع الشفاعة لدى ميسورين ووجهاء باستطاعتهم تأمين أضعاف المبلغ المطلوب لتلك الطلمبة التي يحتاجونها!! إلا أنه اعتذر عن الدفع، واعتذر حتى عن الشفاعة لدى أهل الخير ليشرب أتباعه هؤلاء، وقد كان عتب بعضهم بقولهم: «إن كان الشيخ لا يستطيع لم نكن لنعاتبه ولكن نحن على يقين من استطاعته لمساعدتنا ولو بالشفاعة ولكن لم يفعل»، وقد تمّ حل الإشكال في وقتها بواسطة محسن من دولة أخرى لا يعرفهم ولا يعرفونه!! وعلى هذا المثال قس «الآلاف» من النماذج، فإن كثيراً من الأتباع تراجعوا بسبب مواقف تلك الأحزاب بنفسها، ولا يفهم مما ذكرت إقرار البرامج السابقة لهذه الأحزاب، فقد أشرت إلى المخالفات في المعتقدات والمحدثات والمبتدعات، وإنما المقصود بيان أنها كانت تستغل لفترة من الزمن العاطفة الدينية لدى الأتباع وبالتالي حصلت على تلك التبعيات لرفعهم شعار الدين؛ ولمحبة الناس للإسلام وحرصهم عليه. ومن أسباب ما آلت إليه الطائفية في بلادنا انتشار الوعي بتوضيح مسائل المعتقد، وإدراك أهمية ثبوت الدليل الشرعي لإثبات القضايا والأحكام الدينية، فنظر كثير من الأتباع وتأملوا في عقائد من يتبعونهم فانتبهوا لبطلان كثير من المظاهر التي ألِفوا متبوعيهم عليها؛ ومن تلك الظواهر قضية «ادعاء كثيرين لمعرفة المغيبات»، بل ادعاء الاطلاع على ما في اللوح المحفوظ!! وهذه ظاهرة لا تحتاج إلى بيِّنات وأدلة لإثباتها، فإن من يدَّعون أنهم يعرفون المغيبات ويخبرون بمكان المسروق، ويعطون السائلين أخبار مستقبلهم، كثر، وربما لا تخلو منهم مدينة أو قرية، وربما في بعض المدن لا يخلو منهم حي، وإن اختلفت طرقهم وأساليبهم إلا أن هدفهم واحد، ويأكلون أموال الناس بالباطل بل إن أكثر من تؤكل أموالهم من الفقراء والمعدمين!!
والقصص في هذا متكررة ويندى لها الجبين، يدَّعون حق الله تعالى لأنفسهم المريضة. وأما أسباب بقاء هذه الظاهرة وانتشارها فهي كثيرة؛ ومن أهمها: «الجهل» بالإسلام وما دلت عليه نصوص القرآن والسنة، و«التقليد الأعمى» لدى كثيرين، و«ضعف دور العلماء والدعاة» في القيام بما يجب عليهم في نشر الوعي والتحذير من هؤلاء المتشعوذين، كما أن «وجود أئمة الضلال» الذين يزينون للناس هذه الأعمال ويحثونهم عليها ويثنون على القائمين بها هو «من أهم أسباب انتشار هذه الظاهرة»، وقد تكسّب كثيرون من دعوى معرفة المغيبات حتى انتشر العلم والمعرفة وانفضّ الكثيرون من أصحاب تلك الدعاوى، والموضوع بحاجة إلى دراسة أكثر تفصيلاً، ولضيق المقام اكتفي بهذه الإشارة، والموفق من وفقه الله..


تعليق واحد

  1. شكرا اخي دكتور عارف على هذا المقال الرائع .. ان مصيبة السودان والتي ادت الى تخلفه الى يومنا هذا
    انها احزاب قائمة على التعبية الدينية العمياء والمطلقة ,, واحسب ان قال لهم شيخهم هلموا الى النار لذهبوا .. ( نكتة صغيرة حبوبة لنا كانت في الشتاء القارس في مشوار ليلا واصابها البرد شديد وحين عادت وجدت النار في وسط البيت في تشط مليء بالتراب وجلست وتدفأت وشعرت بالراحة فقالت النار فالي وفال احمد اخوي) نعم هكذا تمنت النار وهي لا تعرف انها دعت على نفسها وبنفس جهل هذا الدعاء هي وغيرها ينقادون وراء اؤلئك الضالون المضللون ..
    احزاب لم تقم او تؤسس على فكرة او برنامج سياسي او افكر اقتصادي ولم يكن التنافس في تنفيذ تلك البرامج وانما لتنافس القاتل من يكون سيد من
    الحزبان الكبيران كما يحلو لهما ان يسمي .. ابعد مايكونان عن الدين وهما يتلبسان بثوب خداع الدين .. ولو سال ابناؤهم ابائهم من اين لنا كل هذه الاراضي والاموال لعرفوا انها اموا واراضي المساكين التي وهبوها للله وكان على الاقل ان تكون اوقاف باسم هؤلاء المساكين وهنا كان مطابقة الاية الكريمة عليهم .. والتي جاء في شرحها ماكان لله لا صل الى الله وماكان لاصحابهم يصل الى اصحابه (وتِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)
    وصحيح الاية : (وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل الى الله وما كان لله فهو يصل الى شركائهم ساء ما يحكمون)
    ان الاحزاب الكبيرة باسمها وصغيرة بمبادئها لن تكون يوما عونا لتطوير الحياة السايسية في السودان ولن تكون سببا في رقي هذه الامة