منى ابوزيد

أحفاد الجرجون ..!


«إن الزمن الذي قال عنه روائي بعظمة نجيب محفوظ إنه يذيب الصخور، ويفتت الصروح، ويغير وجه البسيطة، هو في بلادنا ذائب، ومفتت، وبلا ملامح».. الكاتبة ..!
في إطار سردي يغلُب عليه طابع المونولوج، ويميل إلى لغة المسرح.. مستخدمة كلتا يديها في عدِّ الساعات وتعداد الخسائر، روت لى إحدى صديقاتي المقيمات خارج السودان قصتها السنوية المعتادة عن العطلة المهدرة والأوقات المسفوحة – في هذا البلد – على مذبح «المَهَلَة»، متسائلة بسخط درامي عن الزمن الذي سوف يصبح فيه سكان هذا البلد كباقي خلق الله الذين يقاسمونهم ذات الكوكب..!
بدوري أجبتها إجابتي السنوية المعهودة: «لن نصبح أبداً كباقي خلق الله الذين يقاسموننا ذات الكوكب لأننا نختلف عنهم في كوننا – ببساطة – من «سلالة الجرجون»، بل نحن أجيال مطورة من تلك السلالة، نجحت بفضل «التعبقر» و»التذاكي» في تحريف كفاءة اللعنةالشهيرة إياها.. لذا عوضاً عن تحويل الأشياء من حولنا إلى حجر – كما تقتضي الأسطورة – ظللنا نتفنن في «تشيئ» الزمن حتى حولناه إلى صخرة عملاقة تجثم على محاولات استثمارنا إياه على الوجه الأمثل كباقي خلق الله ..!
ولأننا قد نجحنا بكفاءة في تحجير الزمن، نحن قوم لا «نهرع» أبداً، حتى أن هذا المعنى لا وجود له في قاموس معاملاتنا اليومية.. أقولها بكل صراحة: في هذا السودان لا أحد يهرع.. نحن نمشي ببطء.. نتحرك بتثاقل.. نومئ بتراخي.. نتثاءب بخمول.. وكأن الدنيا بأسرها قد قطعت على نفسها عهداً صارماً ومقدساً بتدليلنا، وتذليل شؤوننا، وتيسير أمورنا إنابة عنا.. بينما نتفوق نحن في تحجير الساعات وتحويلها إلى صخور جرانيتية تقطع أنفاس المشاريع وتصهر أرواح المنجزات..!
ولعل من أشهر أدوات التحجير تلك وأكثرها تداولاً تلك المصطلحات المطاطية التي نستخدمها ليس في تسمية الأوقات فقط، بل في ضرب المواقيت أيضاً.. في هذا البلد لا يزال اليوم ينقسم فيما يتعلق بإبرام اللقاءات إلى «صباحية» .. «ضحى» .. «عصرية» ..»مغربية» .. ناهيك عن المصطلح الزمني المسمى بفترة ما بعد «العشاء»- بكسر العين أو فتحها لا فرق – فالمصطلح في نفسه مطاط وحمَّال أوجه..!
في هذا البلد لا يزال داء «المَهَلَة» متفشياً حتى يكاد يفتك ببقية الأمل الباقية في أن نصبح كبقية خلق الله في مجتمعات لم يعد الجانب الخشن منها هو فقط الذي يهرع، ولم تعد الأنثى العصرية هي ذاتها التي «تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل» فيتغنى الشعراء بمشيتها الماهلة طويلاً ..العالم بأسره يهرع ويهرول، و الموظفون في شوارعنا يمشون كأنهم يمشون بلاهدى، ليس كأن لكل منهم وجهة أو مقصد يجب أن يبلغه في ساعة محددة..!
أما المدهش حقاً فهو:ما أن يجلس أحدنا خلف عجلة القيادة حتى يتحول الشخص الذي يضرب المواعيد مستخدماً ذات المصطلحات المطاطية كالضحى .. والعصرية .. والمغربية .. إلى شخص يحسب أجزاء الثانية عند كل منعطف، ويستكثر الصبر لثوانٍ معدودات أمام الإشارة الحمراء..!
حينما سئل «ألبرتو مورافيا» عن أجمل ساعات العمر قال إنها «تلك الساعات التي لا يشعر فيها بالزمن».. هل يعني ذلك بأننا – في هذا البلد – نعيش سعادة أزليَّة على طريقة مورافيا..؟!