تحقيقات وتقارير

“حقك علينا” كان جاكسون بالأمس مسرحا لـ”كشة” كبيرة حملت أكوام الأوساخ المتراكمة.. كان مدهشاً أن يستقبل “الفريشة” في الموقف دفارات المحلية بالتهليل والتكبير فالعربات جاءت لغرض لا علاقة له بـ”الحملات” المعتادة


كان مدهشاً أن يستقبل (الفريشة) في موقف جاكسون دفارات المحلية بالتهليل والتكبير مثل دهشة أن تأتي ذات العربات لغرض غير (الحملات) المعتادة. وكان جاكسون بالأمس مسرحا (لكشة) كبيرة حملت أكوام الأوساخ المتراكمة وشارك فيها عدد كبير من الشباب والكبار ولم يغب عنها بالطبع الأطفال حيث أن علاقة التصافي بين المحلية وأهل السوق يمكن إرجاعها بالضرورة لبركة الجمعة ولمبادرة (حقك علينا يا وطن)، التي استهدفت بشكل رئيس رسم ابتسامة على وجه المدينة المغطاة بالأحزان والأوساخ معاً.

يبدأ المشهد في التاسعة بتوقيت البلد.. يحتضن الجميع راياتهم ومن ثم يرفعون النشيد (نحن جند الله جند الوطن).. بعدها يمسك أحمد، الشاب العشريني، مكنسته دون أن يحفل بالغبار العالق بجسده، يواصل عمله بهمة وهو ينادي على رفيقه بضرورة اللحاق به هو ودرداقته. أحمد الذي كان يتحرك صباح أمس الجمعة في ميدان جاكسون يقول إن وصوله إلى هذه النقطة كان استجابة لنداء الوطن، وحق البلد علينا، والتزاماً مع أصحاب مبادرة (حقك علينا) التي نفذت أمس حملة نظافة في ميدان جاكسون في قلب الخرطوم؛ وهو نشاط تم بمشاركة مجتمعية من فئات متعددة من مؤسسات رسمية، ومن شركات في مجال الاتصالات.

وفي نهاية المشروع اكتسى الميدان الأكثر ازدحاماً في العاصمة الخرطوم بالألوان وبنظافة بدت مثارا للإعجاب ممن يعبرون الموقف كل يوم.
وجاء معتمد الخرطوم برفقة موظفي المحلية وعمالها وآلياتها للمشاركة في الحملة التي كانت عبارة عن مشاركة مجتمعية بين المحلية والمجلس الأعلى للبيئة بولاية الخرطوم، ومجموعة الشباب.

ودون المضي أكثر من ذلك فإن المبادرة وبحسب القائمين عليها انطلقت ذات جلسة لاحتساء القهوة وبعدها إلى وسائط التواصل الاجتماعي التي خلقت حولها هذا الإقبال الذي بدا ماثلاً يوم أمس في حركة الشباب وهم يعيدون رسم صورة جاكسون عبر أدوات جديدة وبرفع ألوية النظافة.
ويقول أحد الشباب أصحاب المبادرة وهو يهم بالتقاط بعض الأكياس: الآن يمكن القول بأننا بدأنا نحصد ما غرسنا وهذا الحضور الكثيف والاستجابة الشبابية تؤكد على عمق قيمة الوطن والمحافظة عليه في قلوب أهله.
ويصر الشاب على أن كل ما يليهم في هذا الأمر هو أجر (المناولة) وأنهم سيكونون أكثر سعادة لو أن الأمر مضى إلى خواتيمه الموضوعية: “كل ما نريده وطن أنضف وسنصل إليه..”

وبدا الشاب سعيداً بالاستجابة للمبادرة واعتبر أن ما حدث يمكن أن يمثل الطوبة الأولى التي يمكن البناء عليها.
المساهمة في النظافة سلوك يجب أن يتخذ الصفة الجماعية، ويجب أن يترسخ لدى الجميع. هذا ما يؤمن به الجميع، لكن ثمة أصوات للاحتجاج خرجت أمس حين تعلق الأمر بحضور المؤسسات الحكومية وشركات الاتصالات، بل إن البعض اتهم هذه المجموعات بأنها قامت بسرقة مجهود الشباب وفكرتهم وحاولت تجييرها لخدمتها عبر وسائل الإعلام، بينما كان التساؤل بلسان آخرين:: أين كانت هذه الجهات قبل المبادرة؟
ويجيب ذات الشاب على هذا الأمر بالقول: حضور هذه الجهات هو انتصار للقيم العليا وللغاية المطلوبة فالمبادرة في الأصل كانت شراكة مجتمعية بين مجموعات أهلية وبين الجهات التي حضرت، نحن في المبادرة سعداء بحضور الجميع وسعداء بقدرتنا على المضي في الأمر إلى نهاياته.. حديث الشاب يبدو مقنعاً مثل ما هي صور جاكسون الخميس والصورة التي بدا عليها يوم الجمعة.. ويكمل حديثه: ربما يعود الميدان غداً إلى أسوأ من حالته الأولى لكننا أضأنا المصباح الأول وسنعاود مرة أخرى النقر على مفتاح التشغيل.

الحديث بدوره لم يضع إجابات لأسئلة تتعلق بالدور الذي تقوم به هيئة النظافة وهي تنال رسوم النفايات على دائر المليم، بل إن البعض دعا للتوقف عن دفع الرسوم المقررة ما لم تقم هذه الجهة بوظيفتها التي تنال مقابلها المادي.
وبعيداً عن جدل القول، فإن الفعل على المسرح بدا يسر الناظرين ويخبر عن نجاح ملموس بدا واضحاً في أعلى كوبري الحرية الذي غطاه أمس العلم وبدأ يرفرف، ومعه المساهمات والرسومات التي أنجزها طلاب كلية الفنون الجميلة بجامعة السودان، الذين بدت السعادة على وجوههم وهم يجدون معرضاً لنشر إبداعهم على الهواء الطلق، ويوقعون تحتها بالمحبة لصالح البلد الكبير والوطن المتسع للأحلام.
وتمت إعادة طلاء كل حواجز الكوبري بألوان العلم، فيما تم توظيف المتاريس الأسمنتية فيه كقواعد كتبت في داخلها عبارة (دا السودان).. السودان الذي بدا مختلفاً بحركة شبابه في سعيهم لرسم صورة جديدة بدت مغايرة وهي تعيد تعبيد الطريق الواصل بين الموقف ومستشفى الخرطوم التعليمي.. الطريق الذي كان متسعاً لحظتئذٍ لدرداقات الشباب وفرش بوهياتهم وألوانهم ومكانسهم والسيارات التي قام من يستقلونها بممارسة الحد الأدنى من الإيمان والشكر حين أطلقوا أبواقها التي رددت عبارة شكراً.. وإن كانت الاماني في دواخلهم: استمروا فما زال الطريق طويلاً والوصول إلى القمة بالغ الصعوبة لكن إن أردتم ذلك فستنجزونه.

وقبل أن تغادر الوجه المشرق لجاكسون بعد الحملة الأولى تفاجئك لوحة تسبقها رسالة يرسمها أحد طلاب كلية الفنون الجميلة ويلحقها بعبارة (لا للمخدرات).. رسالة أخرى يضمنها الشباب في دفتر عملهم يكتبون فيها أمنية الوطن الذي يحلمون به ولا ينسون أن يرفعوا من صوت مكبر الصوت في قلب الميدان حين ينشد لهم العطبراوي (نحن من نفر عمروا الأرض حيثما قطنوا).
النفر والنفير كانت تفاصيل جمعة تم ابتدارها بنشيد العلم.. ويقول من دعوا لها إنها لم تكتمل بعد وإن ثمة خطوات أخرى في الطريق.. لكنهم قبل الوصول إليها ينادون الآخرين أن يجعلوا من النظافة واجبا جماعيا ويستخدمون ذات (لا للمخدرات لا لرمي القوارير الفارغة في قارعة الطريق) ويكملون أن المشروع الذي تم ابتداره بخطوة سيصل إلى ميس المُنى وتعود الأحلام القديمة في خرطوم تشبه أهلها وقيمهم.

الزين عثمان
صحيفة اليوم التالي