د. ياسر محجوب الحسين

أفيال جوبا..لم ينته الدرس


هل ينتهي صراع الأفيال في جنوب السودان بصدور مرسوم رئاسي بتعيين زعيم المتمردين رياك مشار، نائبا أول لرئيس الدولة الأحدث في العالم؟ لقد حطمت الأفيال المصطرعة الحشائش الاستوائية الغزيرة الممتلئة حيوية ولم يحلُ لها التصالح إلا على جثث مواطني جنوب السودان.. بعد فوات الأوان لم يتبق للمصطرعين سوى شبح دولة غدت توصم بالدولة الفاشلة.. بقرار عبثي وانفعالي لرئيس الدولة بإقالة النائب الأول من المنصب الذي كان يشغله بين 2005 و2013، اندلعت حرب أهلية في ديسمبر 2013 إثر اشتباكات بين قوات موالية للرئيس سلفا كير وجنود يؤيدون نائبه المقال رياك مشار.. فحصدت الحرب في أقل من 3 سنوات ما لم تحصده الحرب بين شمال وجنوب السودان قبل الانفصال زهاء خمسين عاما.
لقد نزح أكثر من 2.3 مليون شخص من منازلهم وقتل مئات الآلاف نتيجة الاقتتال الذي رافقته جرائم حرب تورط فيها الطرفان، من مجازر عرقية وعمليات اغتصاب وتعذيب وتجنيد أطفال وعمليات تهجير قسرية للسكان.
تتألف دولة جنوب السودان من (60) مجموعة قبلية أكبرها مجموعة (الدينكا) التي ينتمي إليها رئيس الدولة سلفا كير ميارديت، ويبلغ تعدادها نحو (4) ملايين نسمة يشكلون (40%) من مجمل تعداد السكان. وتأتي قبيلة النوير في المرتبة الثانية من حيث التعداد إذ يبلغ تعدادها نحو مليون نسمة. وليس الصراع بين القبيلتين بالجديد بل هو صراع زعامة على الأرض والموارد له امتدادات تاريخية معلومة. وبعيد الانفصال عن السودان راع نظام الحكم الوليد هذه التركيبة القبلية المعقدة، وهو نظام حكم يوصف في دستور البلاد بأنه (نظام رئاسي، جمهورية فيدرالية، ديمقراطية تمثيلية). وعليه فقد تواضعت النُخبة الحاكمة وهي الحركة الشعبية (الحزب الحاكم) على أن يكون رئيس البلاد من قبيلة الدينكا ونائبه من قبيلة النوير فيما يتم تقسيم السلطة على القبائل الأخرى بنسب تراعي أوزانها القبلية.
وعود على بدء أعاد اتفاق السلام الذي وقعه كير ومشار في 26 أغسطس الماضي، العمل بتلك القسمة التي نقض غزلها الرئيس سلفا كير. وكان من المخطط له أن يكتمل قبل الموعد النهائي في 22 يناير الماضي تشكيل حكومة وفقا لذلك، لا تزال في طريق مسدود.. حتى المرسوم الذي صدر بتعيين مشار نائبا للرئيس لم يتضمن تفاصيل صلاحياته، ولذلك تأخر تطبيق الاتفاق ولم يعد مشار إلى جوبا حتى اليوم.
لهذا زار الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، أمس الأول الخميس جوبا طالبا من قادة جنوب السودان، ممارسة مسوؤلياتهم، والعمل على تطبيق وقف إطلاق النار الموقع بينهم. وشدد مون على أن الالتزام بشروط هذا الاتفاق ليس خيارا بل هو واجب. من جانبه قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الأربعاء إن كير ومشار قد يواجهان عقوبات فردية إذا لم يلتزما باتفاق السلام مؤكداً أنها لحظة حرجة بالنسبة لبقاء جنوب السودان.
مستوى تدني الثقة بين الجانبين يعد سببا رئيسيا في تعثر الاتفاق الذي يتطلب نشر قوات لمشار في العاصمة جوبا قبيل عودته التي أكد متحدث باسمه أنه من المتوقع أن يعود إلى جوبا في الأسبوع الأول من مارس القادم.
المسؤولية الكبرى تقع على عاتق سلفا كير باعتباره رئيس الدولة وبيده كثير من المفاتيح التي من خلالها يتسرب إكسير الثقة.. الدرس الذي يجب أن ينتهي بخير أن يدرك سلفا خطأ إقالته لنائبه وهي إقالة مست قبيلة كبيرة في البلاد.. في ذات الوقت على مشار ألا يتطلع لمنصب رئيس الدولة ويدرك خطأ إعلانه الترشح لرئاسة الدولة منافساً سلفا كير في وقت سابق لتفجر الخلاف.. على الطرفين إدراك أن الحل المتاح في الوقت الحاضر لتجنيب البلاد الحروب الأهلية الطاحنة في ظل الثقافة القبلية المتحكمة هو تحقيق معادلة سياسية تستوعب الأوزان القبلية.
خارجيا تتحمل الولايات المتحدة الأمريكية وزرا كبيرا؛ فهي التي وقفت داعمة ومساندة للانفصال الذي ربما أدرك الجميع خطأه بعد حين..فليس التعاطف وحده مع الانفصاليين، وأموال المساعدات الطائلة، كافيا لصناعة دولة ووطن.. لاحقا فشلت واشنطن في الحفاظ على الدولة الحديثة ولم يستطع الرئيس باراك أوباما الذي أظهر ضعفا بينا في حسم الصراعات في أفغانستان وسوريا وأوروبا أن يفرض حلا لمشكلة دولة جنوب السودان. فلم تعد العديد من دول العالم التي كانت تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في السياسات الدولية تثق بقدرة أمريكا على القيام على هذه السياسات.
الكثيرون مقتنعون اليوم بأن أوباما فقد الشرق الأوسط بسبب افتقاره للرؤية والاستراتيجية والشجاعة، وإنه لذلك سيترك سوريا المدمرة ميراثا له مثلما ترك جورج دبليو بوش العراق.