رأي ومقالات

الفضية


الفضية ..او الفترينة ..واحيانا اخرى (البترينة) ..كانت احد ركائز الاثاث في البيوت السودانية ..لا يخلو منها منزل ..ترى بداخلها فاخر الاكواب والصحون الصيني..التي كان يزينها رسم لفتى وفتاة يطلقان عليهما اسم روميو وجولييت ..زاملتني الفضية منذ الطفولة ..فقد فتحت عيني في هذه الدنيا لاجدها متصدرة الصالة في بيتنا في عطبرة …كانت لها هيبة وخصوصية ..لا يسمح لنا نحن الاطفال باللعب بجانبها ..ويقارب ان تقرأ التحذير فوقها (ممنوع الاقتراب أو التصوير ) ..كانت الاكواب بداخلها لاتخرج الا لعزيز ..او ضيف فوق العادة ..كزيارة الشيخ البرهاني لوالدي رحمه الله ..كمجئ أصدقاء اخوتي الكبار الذين يدرسون معهم بالجامعة ..كانت والدتي رحمة الله عليها تخرج لهم (طقم الصيني ) بحذر وفخر…كيف لا ..وطلاب الجامعة الذين يمزجون الانجليزية بالعربية يجلسون في (الديوان)…كم كنت اتوق الى تلك اللحظة ..ان اكبر في السن وتأتي لي من الصديقات من ترى والدتي انهن جديرات بأن تفتح لهن أبواب الفضية وتخرج تلك الكؤوس المذهبة ويصب فيها شراب الكركدي البارد …او أترقى لدرجة طقم الشاي الصيني الذي كنت أعتقد انه مخصص فقط لأصدقاء اخوتي الكبار صلاح وعبدالحميد ….تغيرت الاحوال ..وظهر (الصايد بورد) ..احتل جزءا مقدرا من الصالة …ثم جرى تغييره الى ما تدعى مجازا (الحافلة ) ..ربما لضخامتها وقدرتها على تخزين أصناف (العدة ) المختلفة ..وتوارت الفضية قليلا داخل غرفة امي ..لكن كل ذلك لم يؤثر فيها ..فقد ظلت الفضية شاهدة على احداث كثيرة ..نجاحات المدرسة وامتحانات الشهادة ..زغاريد امي عند خطبة احدى أخواتي البنات ..صرخة ميلاد ابناء اخواتي …سمعت معنا واستمعت لهمسات وضحكات ..ابتلعت اهات واحزان ..وظلت هكذا مستودع أسرار لا يمكن الشك في امانته ..اتراها بكت معنا رحيل أبي وجدتي وكل الاحبة الذين عاصرتهم ؟؟ هل لذلك احتفظت بها والدتي كاخر قطعة من اثاثها القديم الذي كان يذكرها بعطبرة واهلها؟؟ … اين قرات مقولة ان الأشياء التي نصنعها بأيدينا اطول عمرا منا ؟؟ ..نرحل نحن وتظل هي حاملة لذكرياتنا وعبق أزمنة كان فيها من نحب ملء العين والقلب …بالامس اكتملت فرحتي باحضار فضية الحاجة رحمة الله عليها الى بيتي ..كنت حريصة على وضع ذات الكؤوس المذهبة التي طالما حلمت بها ..ربما تخففت قليلا من بعض صحون (روميو وجولييت) ..ولكنني احسست بشعور غريب لا استطيع وصفه وانا اتأملها عن قرب ..كنت كمن فتح فجأة شباكا على كل ذكريات الطفولة … وانا في حالتي تلك مرة أضحك ومرة ابكي ..حضرت ابنتي وهتفت (الله يا ماما ..حلوة خالص …بس هي ليه اسمها فضية؟؟ عندها أي علاقة بالفضة ولا الدهب ؟؟) .. اعتقد انه كان يتم فيها الاحتفاظ بالاواني الفضية يوما ما ..لكنني اعتقد ايضا ان الذكريات التي تحملها لاتقاس الا بمنطق الذهب والفضة ….هنا يا ابنتي يوجد كتاب فريد يحمل بين طياته تفاصيل حياة ..وذكريات احداث تشاركناها انا واخوتي يوما ..فرقت بيننا سبل الحياة واخذت كل منا في طريق ..وبقيت هذه الفضية شاهدة على تلك العرى التي لم تنفصم ..وتلك المحبة التي ارجو من الله دوامها

د. ناهد قرناص


‫4 تعليقات

  1. د. ناهد
    اتذكر جيدا و انا طفل صغير كنت اصطحب بعض اهلنا القادمين من وادي حلفا أو حلفا الجديدة في زيارات ماكوكيه الي بيوت أقاربهم و أصدقائهم الحلفاويين في عطبرة . و كنت ازور بيتكم كثيرا و لا أزال اتذكر والدك و والدتكم رحمهما الله .
    أما أخوك صلاح فاعرفه جيدا و كان يزورنا بشكل يومي مع صديقه السني . فكانت تربطهما علاقه صداقه قويه مع عمي …
    و آخر مره التقيت بصلاح في وادي حلفا قبل حوالي 8 سنوات
    عطبرة زاتها فضية بحد ذاتها جمعت في باطنها كل ألوان الطيف السوداني .. لا أزال ازورها باستمرار كلما أحضر للسودان في اجازاتي

  2. رحم الله والدتكم . خالتي ” منيرة ”

    أبكيتني بتلك الذكريات د. ناهد

  3. الله اديك العافية يابت قرناص ..
    فعلا الغضية زكريات مازالت عالقة في اذهاننا
    الي الحين .. وحاليا عندما اقول للمدام ادينا
    كباية من الفضية تضحك وتقول لي انت قديم
    شكرا كتير ياحليل زمان وناس زمان

  4. مقالك هذا أبكي الكثيرين .. حفظك الله ورحم والدينا ووالديكم