رأي ومقالاتمقالات متنوعة

د. مصطفى عثمان إسماعيل : في رحاب ذكرى رحيل الشهيد المشير “الزبير محمد صالح”


(مواقف ومشاهد) (2)
في الأيام الأخيرة قبل استشهاده كانت الترتيبات تجري لعقد المؤتمر العام التأسيسي لتأسيس التنظيم السياسي الذي انبثق منه المؤتمر الوطني، كان الراحل “الزبير” يرأس اللجنة العليا للمؤتمر وكنت مسؤولاً عن الدعوات الخارجية. في هذا الأثناء تقرر أن يقوم سيادته بزيارة لجمهورية إيران الإسلامية، وكنت بحكم عملي وزير دولة برئاسة الجمهورية أو وزير دولة بوزارة الخارجية تقع عليّ مهمة الترتيب لزياراته الخارجية ومرافقته. في طريق العودة من إيران مرت الطائرة كما هو مخطط فوق الأجواء السعودية، ولما اقتربنا من المدينة المنورة أعلن كابتن الطائرة ذلك، فنادى الراحل لمندوب المراسم وطلب منه إن أمكن أن تنزل الطائرة في مطار المدينة المنورة لكي يزور المسجد النبوي ويسلم على الرسول “صلى الله عليه وسلم”. ارتبك مندوب المراسم ماذا يفعل والسلطات السعودية لم تخطر مسبقاً والراحل ليس ضيفاً عادياً، بل هو النائب الأول لرئيس الجمهورية، وما يتطلبه ذلك من إذن واستقبال وبروتوكول. جاءني مندوب المراسم يستنجد بي في أن أثني الراحل عن هذه الفكرة. تحدثت معه بصعوبة الأمر وأننا يمكن أن نرتب له زيارة بعد العودة إلى السودان. كانت حجته ببساطة أنه لا يريد لا بروتوكول ولا استقبال، فقط يريد أن يسلم على رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، أقنعته في نهاية الأمر باستحالة ذلك والأفضل أن يتم ذلك بعد العودة للسودان. عدنا إلى السودان، سافر الراحل لأداء العمرة وبعد عودته كانت الترتيبات قد قطعت شوطاً بعيداً لعقد المؤتمر التأسيسي، في هذا التوقيت قرر أن يقوم بزيارته الأخيرة للجنوب وكنت ضمن الوفد المرافق له، طلب مني الأخوة في القيادة إمكانية تأجيل رحلة النائب الأول للجنوب إلى ما بعد المؤتمر حتى يعكف هو على متابعة أعمال اللجنة العليا وأتابع الدعوات الخارجية. ذهبت إليه في المنزل ونقلت له رغبة الأخوة في التأجيل غير أنني وجدته قد تهيأ تماماً للزيارة، وعندما أكثرت له من الحجج باغتني بمقترح شبيه بالقرار وهو أن أتخلف أنا وأتابع تحضيرات المؤتمر ويسافر هو ووفده إلى الجنوب، وعلى ذلك افترقنا. قبل الموعد المحدد لسفر الراحل إلى الجنوب بيوم أو يومين مررت على صديقي الأستاذ “علي محمد عثمان يس” وزير العدل الأسبق وكان وقتها وزير الدولة بوزارة الحكم الاتحادي التي كان على رأسها في ذلك الوقت الدكتور “علي الحاج محمد” رد الله غربته، وجدت الأستاذ “علي محمد عثمان يس” على غير عادته مهموماً، فبادرته: ما بك؟ رد عليّ بأن زوجته على الوضوع وهو يشتكي من ارتفاع السكر وهو ضمن الوفد المسافر مع النائب الأول للجنوب. قلت له: لماذا لا تعتذر؟ قال: لا. لا أريد أن أعتذر، وأجد في ذلك حرجاً شديداً. أدرت قرص الهاتف فرد عليّ من الطرف الآخر النائب الأول مباشرة، حكيت له وضع الأخ “علي يس” واقترحت عليه أن يعفيه من هذه الرحلة للظروف التي يمر بها، قال لي الراحل: إنت لا داير تمشي لا تخلي الناس يمشوا؟ مازحته قائلاً: (يا سعادتك إنت علي يس بشبه الجنوب ما تسوق الناس البيشبهوا الجنوب)، قال لي: زي منو؟ قلت له: زي “الطيب إبراهيم” و”موسى المك كور” وكثيرين أمثالهم.. خلاص عفينا “علي يس” من الرحلة دية وودعتك الله أبقى عشرة على المؤتمر.
ما كنت أعلم أن هذه ستكون آخر الكلمات بيني وبينه، نجا “علي يس” من تلك الرحلة ودائماً ما أقول له: لقد كنت سبباً في إنقاذك من موت محقق، فأنت لا تعرف العوم فإن نجوت من الطائرة كانت ستتخطفك التماسيح في نهر “السوباط”.
نهار يوم 12 فبراير كان يوماً ثقيلاً عليّ، فبحكم عملي وزير دولة بالخارجية والأستاذ “علي عثمان” وزير الخارجية حيث كان دائماً مشغولاً بقضايا أخرى سياسية وأمنية، كنت مسؤولاً عن معظم العمل الإداري والمالي في الخارجية، حوالي منتصف النهار رن جرس الهاتف وأبلغوني بأني مطلوب فوراً لدى الأخ الرئيس بمكتبه بالقصر الجمهوري. قلت أكمل بعض الأعمال بسرعة فإذا بهاتف ثانٍ يستعجلني في الحضور لمكتب السيد الرئيس. تحركت على الفور ولم يدر بخلدي أبداً أن النبأ هو ما سيبلغني به الأخ الرئيس، وجدت الناس وجوماً حول الأخ الرئيس، فتوجست، فبادرني الأخ الرئيس بالخبر، حاول أن يخفف عليّ وقعه لكني كنت قد فقدت وعيي وحملت إلى غرفة مجاورة في أحد مكاتب القصر، بعد مدة عاد إليّ وعيي فاسترجعت الله وأرسلت دموعي وعبراتي، ثم غسلت وجهي وتوضأت وصليت واستغفرت الله.. ودعوت للراحل بالرحمة وللسودان بالحفظ والصون، ثم بدأنا في الترتيب لاستقبال الجثمان وترتيبات العزاء.
رحم الله الشهيد “الزبير محمد صالح” رحمة واسعة وأسكنه علياء الجنان، فقد كان أخاً كريماً سمحاً رقيقاً في محل الرقة قوياً في محل القوة، من لا يعرفه يهابه، لكنك عندما تقترب منه تجد نفسك أمام رجل حنون، ودود، عطوف، كلماته عفوية تدخل القلب بلا استئذان.. سأحاول في هذا المقال والمقالات القادمة أن أتعرض لبعض من هذه المواقف والمشاهد التي كنت شاهداً عليها وتعكس بعضاً من صفاته، وسأبدأ بزيارتين من زياراته العديدة لليبيا حيث كانت تربطه بالقيادة الليبية في عهد العقيد “معمر القذافي” وخاصة باللواء “أبو بكر يونس جابر” وزير الدفاع والمشرف على شؤون السودان علاقة وثيقة.. الزيارة الأولى كانت تلبية لدعوة من العقيد “القذافي” للرئيس “البشير” للمشاركة في احتفالات الفاتح من سبتمبر، وكان العقيد “القذافي” يرغب بشدة في مشاركة الرئيس “البشير” شخصياً إلا أنه اعتذر وكلف نائبه الأول الراحل “الزبير” لينوب عنه، وصلنا إلى ليبيا (الجماهيرية في ذلك الوقت)، ثم ذهبنا لمنصة الاحتفال حيث يجلس العقيد “القذافي” وسط ضيوفه، سلم عليه الراحل فرد العقيد التحية قائلاً: (مرحباً يا زبير لكن كنا عايزين “البشير”) معبراً عن امتعاضه بعدم حضور الرئيس “البشير”. ذهلت من هذا الموقف وهذه التحية غير الدبلوماسية من العقيد “القذافي”، وانتظرت أنظر كيف سيتصرف النائب الأول فإذا به وبعفويه وابتسامة وبرود يرد رداً يضحك الجميع بمن فيهم “القذافي”، قال له: (يا قائد أنا جيت قول الحمد لله البشير كمان بيجي).
الزيارة الثانية كانت أعجب، حيث كنا في حاجة ماسة إلى شحنات من النفط، ترددت على العاصمة الليبية طرابلس عدة مرات التقيت خلالها “القذافي” وكان في كل مرة يضع أمامي مزيداً من الالتزامات التي يزعم أننا لم نلتزم بها. وفي آخر زيارة قدم دعوة للدكتور “حسن الترابي” لزيارة ليبيا لأنه يود مناقشته في قضايا إسلامية وفكرية. ليبيا كانت تحت الحصار الأممي بعد حادثة “لوكربي”، الأجواء الليبية ممنوع الطيران فيها، قبل ذلك حدثت حادثة اختفاء الإمام “موسى الصدر” المتهم فيها النظام الليبي، قابلت الدكتور “الترابي” ونقلت له الدعوة وفي ذهني شحنات النفط الليبية، (وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)، لم يأخذ مني الدكتور “الترابي” وقتاً طويلاً فهو معروف بالشجاعة والتوكل لدرجة يحسبه البعض مغامراً، وافق على الزيارة علها تكون سبباً في الإفراج عن شحنات النفط وطلب مني الإعداد للزيارة، ذهبت للرئيس “البشير” وقصصت عليه القصة والدعوة فرفض رفضاً قاطعاً سفر الدكتور “الترابي” إلى ليبيا، في ذهنه طبعاً اختفاء الإمام “موسى الصدر”، وحقيقة له كل الحق في منع سفر الدكتور “الترابي” خاصة وأنه مستهدف، وقد استهدف من قبل عند زيارته لكندا. لجأت للراحل “الزبير” وطلبت منه أن يفاتح الرئيس ويراجعه في هذا الأمر، وقد فعل، ولم يستطع تغيير موقف الأخ الرئيس. ظللت أتردد على الأخ الرئيس وبدفع من الدكتور “الترابي” أُوسط شخصيات لتليين موقف الأخ الرئيس دون جدوى، واشتدت الأزمة والموسم الشتوي على الأبواب ونحن في أمس الحاجة إلى شحنات النفط الليبية.. أخيراً وافق الأخ الرئيس على سفر الدكتور “الترابي”، لكن بشروط محددة.. فما هي هذه الشروط وكيف تمت الزيارة وكيف كانت نتائجها؟؟! هذا ما سنتعرض له في الحلقة القادمة..

(صحيفة المجهر السياسي)