سعد الدين إبراهيم

الاحتفاء بدجاج الخلاء


الاحتفاء بالغير عندنا في الآونة الأخيرة أصبح مرضاً نفسياً يحتاج إلى أن ندخل بسببه إلى العيادة النفسية لنخضع لجلسات علاج طويلة الأمد. أصبحنا نحتفي بالغير من أي جنس ونعلي مقداره مهما كان حجمه، لحظت ذلك في الاحتفاء بأحد الإعلاميين من دولة عربية احتفاءً لا يوازي حجم الرجل ولا مكانته ولا وضعه في السلم الوظيفي في مؤسسته، ولم نسمع عنه أنه موهوب في أي ضرب من الفنون والآداب حتى نجد تبريراً لهذا الاحتفاء الفائت للحد.
الاحتفاء بالغير بهذه الكيفية يعني أننا نعاني من الدونية والإحساس بالنقص فنعلي من قدر– أي غير- وهذه مشاعر ضارة جداً.. ويعني نقصان الثقة بالنفس، مع إحساسنا بأننا لا يمكن أن يصدر الخير من أنفسنا بل من الآخر فنتهافت عليه باعتباره مصدراً للخير رغم حاجته هو ذاته إلى الخير والإحسان.. ويعني أننا استسلمنا لضربات الخيبات المتراكمة وحاق بنا اليأس وبلغ بنا الإحباط مبلغاً نرتمي بسببه في أحضان الغير على إطلاقه دون تمحيص أو اختبار.. ويعني أننا نرى عصفور الغير نسراً، وبالتالي نرى نسورنا مجرد (كتاكيت عمر يوم).. ويعني أننا نضر المحتفى به من (الغير) فهو رجل عادي جداً في نظر نفسه ونظر رهطه، فعندما نحتفي به بهذا القدر المبالغ فيه يتساءل: هل أنا عبقري دون أن أعرف؟ فيصاب بداء الغرور، إذ اكتشفنا عبقريته قبل أن يكتشفها هو ذاته.. بل نحن أوجدناها له من عدم.. ويعني أن بعضنا يستهويه أن يكون مُستعمراً (بضم الميم الأولى وفتح الميم الثانية) على طول الخط وإن خرج المُستعمر (بكسر الميم الثانية) صنعنا بديلاً له حتى لو كان صنماً من عجوة وللأسف لا نجرؤ على أكله عندما نجوع.
فالخواجة وهو الإنجليزي في الغالب عندنا هو الأحسن.. فالرجل المنضبط في مواعيده خواجة.. ومواعيده مواعيد إنجليزية.. وبالمقابل المواعيد السودانية سائبة وأصبحت طرفة يحكيها الجميع حتى أني سمعتها من وزير صحة سابق في لقاء له.. نتلاقى الساعة تسعة عشرة كان ما جيت حداشر أمشي.
والاحتفاء بالغير لا يدخل من باب الكرم.. لأن الكرم يعني الإنفاق في سبيل الضيف ولا يعني تعلية شأنه وجعله أميراً بيننا.. فهذا من باب الاستغفال وليس الكرم، حتى بعض المسؤولين يحتفون بالصحافي أو الإعلامي– من الغير- أكثر بكثير من اهتمامهم بالصحافي أو الإعلامي الوطني.. حتى لو كانوا يعرفون أن صحافي الغير سيلوي عنق الكلام وقد يخرجه بالعناوين المثيرة، حتى بعض العامة أصبحوا يهتمون بغناء الغير ليس لأنه يطربهم فقد لا يفهمون من الأغنية سوى كلمات، إلا أنهم يستمعون بوله، فهذا غناء الغير، فهو أجمل.
هذا الاحتفاء السقيم بالغير يجعلنا نخسر كثيراً.. فرق كرة القدم تنهزم كثيراً من الغير فقط لأنه الغير.. ونحن لدينا عقدة من تفوق الغير.. مسرحنا.. تلفزيوننا.. مدارسنا.. جامعاتنا.. فنوننا.. حضارتنا.. جمال بلادنا.. كل هذا يتضاءل أمام الغير.. فنرى أنفسنا أقزاما ونحن عمالقة.. نرى أنفسنا عبيداً ونحن سادة.. نرى أنفسنا بسطاء ونحن عباقرة.