صلاح الدين عووضة

العنب !!


عزيت سائق تاكسي المطار في وفاة محمد حسنين هيكل فإذا به يخفض صوت المذياع ليسألني ببراءة (مين يا فندم ؟!) ..

* فطلبت منه رفع الصوت مرة أخرى لتجلجل أغنية لم أفهم منها سوى كلمة (مهلبية) ..

* زوج صاحبة العمارة التي استأجرت فيها شقة تحدثت معه عن فقد مصر لأنيس منصور ..

* فأجابني قائلاً (بس أنيس منصور ما متش يا باشا، هو حي ) ..

* فعلمت أن الذي مات هو انطباعي عن مصر كما كنت أعرفها ..

*وازداد يقيني بهذا حين أشار ثالث إلى مجاورة دولة جنوب السودان لمنطقة النوبة ..

* وهو كان يتحدث عن النوبيين النيليين لا نوبة غرب السودان في الجبال ..

* وفي أيام دراستنا الجامعية كان أستاذ الفلسفة عاطف عراقي يتخوف من انهيار ثقافي بمصر ..

* وسبب تخوفه هذا ذيوع شهرة أحمد عدوية في أعقاب عبد الحليم حافظ ..

* لم يكن يستوعب هبوط الذائقة الغنائية من علو ( بتلوموني ليه ) إلى حضيض (سلامتها أم حسن) ..

* ولم يكن يعلم أن عدوية سيكون قياساً” لآخرين يأتون من بعده (سيد درويش ) ..

* ومن الآخرين هؤلاء ذاك الذي لم استوعب من صخب غنائه سوى كلمة (مهلبية) ..

* أما أغرب ما سمعته بالقاهرة إلى الآن أغنية كلها (عنب) ..

* فمقدمتها عنب، ووسطها عنب، وخاتمتها عنب ..

* وكلمة العنب تتردد فيها بقدر أعداد السيارات التي تزحف كما النمل على الشوارع ..

* وربما تعجل قليلاً أحمد عدوية وهو يتذمر – لحناً- مما سماه (زحمة يا دنيا زحمة) ..

* فالقاهرة آنذاك – مقارنة باليوم- هي أفرغ من فؤاد أم موسى ..

* أما التي تستحق أغنية (سلامتها) فهي أم الدنيا الآن وليست أم حسن ..

* وإن كانت القاهرة صنفت – قبل أعوام- خامس أكثر عاصمة ضجيجاً” فلا أدري ما هو ترتيبها الآن..

* فالتلوث السمعي فيها بلغ حداً” لا ينقصه الصياح بـ (العنب) بين جنباتها ..

* والبارحة طلبت من سائق أجرة توصيلي إلى مكتبة (مدبولي) ..

* فلما نظر إلي ببلاهة تركته وطلبت من ثانٍ ، ثم ثالث ، ثم رابع ..

* وكلهم -والله العظيم- لم يعلموا موقع مكتبة مدبولي هذه ..

* أما أنا فقد علمت ما آل إليه (موقع) مصر الثقافي مصداقاً لنبوءة عاطف العراقي ..

* فقد كان يكثر من ترديد عبارة (على الله توقف عند حد انسح اندح امبو) ..

* وعلى الله -الآن- (توقف عند حد القشطة والمهلبية والعنب) ..

* وعودة إلى مكتبة مدبولي أقول إن سائق التاكسي الخامس كانت إجابته (ماشي يا باشا)..

* فلما جلست بجواره وانطلقت السيارة عرفت أنه يريد أن (يمشي) أمره فقط ..

* فما أن (مشينا خطوتين) حتى دمدم قائلاً (بص يافندم، أنا ح أوديك مكان المكتبات وانت تدور على راحتك هناك بقى) ..

* ومشى معنا (العنب العنب العنب) !!!