منى ابوزيد

ساندوتش طعمية ..!


“الحياة كالبصلة، تقشرها طبقة فأخرى، وأحياناً تبكي” .. كارل ساندبرغ ..!
* رحاب طالبة جامعية تعيش يومها بشخصيتين .. الأولى حقيقية في محيطها الخاص .. حيث بيت أسرتها الضيق .. المتهالك، في أكثر أحياء الخرطوم الطرفية فقراً .. وحيث يؤمن والدها بالكاد مصاريف مواصلاتها اليومية من وإلى الجامعة .. وحيث “تباصر” أمها بعنت ومشقة في إعداد وجبة اليوم الواحدة ..!
* أما الوجه الآخر فتعيشه رحاب خارج عالم أسرتها بين شوارع الخرطوم المسفلتة وفي أحيائها الأنيقة .. وداخل حرم الجامعة وعلى مدار ساعات يومها الدراسي .. حيث لم تحتمل قسوة الاختلاف وذل التباين في المأكل والملبس مع أخريات وآخرين قادمين من طبقات أكثر راحة وأقل هجساً بحق المواصلات وحق الفطور ..!
* في البدء – وكالمعتاد – انتبذت لها مكاناً قصياً بعيداً عن الأضواء الكاشفة .. ثم لم تلبث أن لانت شيئاً فشيئاً لفرمانات مجتمع المظاهر ..اختارت حبيباً ينفق على الرفقة الجيدة بسخاء من لا يخشى الغدر .. في البدء كانت الكذبة أمام الأهل ضرورة لتبرير ارتداء بلوزة أو حذاء جديدين .. أو امتلاك كريمات التفتيح العصية على ميزانية الأسرة ..!
* ثم تحول الأمر بمرور الزمن إلى لامبالاة أنتجها الفقر وعززت منها قلة الحيلة .. أدمنت رحاب التنازلات من أجل التماهي مع زينة الأخريات .. ومن أجل التشبه ببنات الطبقة المتوسطة العليا .. لم يكن يؤلمها التناقض بقدر ما آلمتها – أحياناً – سياسة غض الطرف التي انتهجتها الأسرة مع حكاية تغير الأحوال .. إلى أن أتى على رحاب زمان بحثت فيه بإخلاص عن صفعة أب أو ركلة أخ قوية تعيدها إلى أيام العوز والهم .. “هم ساندوتش الطعمية” ..!
* هل تلوم أسرتها ؟! .. أم تسخط على ندوب الطبقية القبيحة التي شوهت وجه مجتمعها العاصمي ؟! .. أم تلقي باللائمة على طموحها الأكاديمي الذي وقف بها على أعتاب التطرف الطبقي ذات سانحة حزينة .. ؟!
* الوقوف على أعتاب الجامعة في مجتمعنا المحلي لا يعني وقوف الطالب على أبواب التغيير عطاءً واكتساباً فحسب .. بل يعني – أيضاً – دخول أسرته في دوامة الهم والقهر المادي طويل الأجل .. الحياة الجامعية – حيث المنعطف الأخطر للصقل الأكاديمي والترسيخ الاجتماعي للهوية والانتماء – أصبحت (في ظل الغياب التام لدعم الدولة .. والحضور المخجل لها عبر بعبع الرسوم الدراسية!) محفوفة بالكثير من المزالق النفسية والخيبات الثقافية والمفارقات الاجتماعية المحبطة ..!
* الجامعات اليوم (وفي ظل بعض السياسات الإدارية العرجاء) باتت مرتعاً للمظاهر ومسرحاً للطبقية الاجتماعية بكل أشكالها الفظة وألوانها الفجة القاتمة .. من التفاوت بين مقدرات طلبة الصف الدراسي الواحد على تغطية نفقات المواصلات إلى امتلاك السيارات الفاخرة .. ومن معاناة المنافسة على الظهور بملابس لائقة تحاول أن تتحدى اتساع الفجوة الطبقية بين الطالب الفقير ونظيره الغني .. إلى المبالغة في عرض الأزياء والاستعراض الموسمي لأحدث صيحات الموضة والماركات العالمية .. ومن معاناة الأغلبية الصامتة مع تدبير نفقات الإفطار اليومي (سندوتش الفول أو الطعمية) إلى استقبال طلبات (الدليفري) باهظة التكاليف بين أسوار الجامعة وعلى مرمى بصر من آخرين يجدون بالكاد “حق الفطور”..!
* ذلك التباين بين ذوي السعة والمعسرين في الجامعات الحكومية لا يثنِّي على إخفاق الدولة في دعم المواطن في أحلك ظروفه وأخطر منعطفاته المادية، فحسب بل ينذر – منذ اليوم – بعواصف اجتماعية عاتية يثيرها صُنَّاع قرار الغد .. فهل من مُذَّكر ..؟!