مزمل ابو القاسم

احتجاب الملهم


* لم تعرف الساحة السياسية السودانية في تاريخها كله شخصيةً مثيرةً للجدل أكثر من الشيخ الدكتور حسن عبد الله الترابي، رحمة الله عليه، الذي انتقل إلى رحاب ربه أمس، بعد أن خلف إرثاً فكرياً، ومنتوجاً سياسياً، يصنفه في زمرة أبرز الشخصيات التي لعبت أدواراً بالغة الأهمية في تاريخ السودان المعاصر، وتعدته لتلقي بظلالها وتأثيراتها القوية على العالمين العربي والإسلامي.
* يختلف الناس حول الترابي السياسي، وتشتجر الآراء حول أفكاره وأفعاله وأقواله ورؤاه، لكن الاتفاق على الترابي العالم العلامة، والمفكر المجدد في أمور الدين والدنيا سيظل حاضراً بعد رحيله، مثلما ظل ماثلاً حتى آخر أيام حياته، عندما ألقى محاضرةً قيمةً حول العقود السياسية والاجتماعية والتجارية بمسجد القوات المسلحة بعد صلاة الجمعة يوم أمس الأول، بحضور الرئيس البشير.
* سيرته الذاتية تستحق التدبر، لأنها حفلت بطموحٍ وثاب، وقوة في الإرادة، وصدق لافتٍ في العزيمة.
* سيرة حفها ذكاء نادر، ونبوغ مبكر، تجلى في تفوقٍ أكاديمي مذهل، أهَّل صاحبه لأن يلج كبرى الجامعات السودانية لدراسة القانون قبل أن يكمل عقده الثاني، وقاده للحصول على درجة الماجستير في واحدة من أشهر الجامعات البريطانية، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وأهله للحصول شهادة الدكتوراه في جامعة السوربون الفرنسية، وكان عمره وقتها (32) عاماً فحسب.
* تلك المسيرة الأكاديمية المبهرة قد لا تدير الرؤوس لو أنجزها أحد في مطالع الألفية الثالثة، لكنها لم تكن كذلك في خمسينيات القرن الماضي، علماً أن صاحبها قرنها بإجادة عدد من أشهر اللغات الحية، وبمنتوجٍ فكري غزير، حمل تجديداً مؤثراً في أمور الدين، أثار حفيظة كثيرين، واستعدى عليه البعض، لكن جرأة الشيخ جعلته يواصل نهجه، ليسبغ قوة شخصيته وغزارة علمه وسعة أفقه على واحدةٍ من أقوى الحركات السياسة السودانية المعاصرة.
* رفد الترابي المكتبة الإسلامية بمجموعة مؤلفات قيمة، شكلت إضافةً نوعيةً مؤثرةً في زمن الخواء الفكري، والجمود الفقهي.
* آمن الشيخ الراحل بأهمية تجديد أصول الفقه، وسعى إلى تحرير المرأة من قيود التخلف، واجتهد لإشراكها في كل أمور الدين والدنيا، واجترح آراء بالغة الجرأة، ولم يكف عن ابتكار الأفكار حتى عندما قذفت به الأقدار خلف الجدران الموصدة.
* من يتدبرون سيرة شيخ حسن رحمة الله عليه سيجدون أنه أمضى ثلث عمره في السجن، ثمناً لإيمانه بنهجه وقوة تمسكه بأفكاره، وثقته في نفسه وطرحه، وسيلحظون أنه لم يستنكف مراجعة مواقفه، ولم يتردد في تجاوز غبائنه السياسية، بدليل أنه ختم حياته داعياً إلى الحوار، ومجتهداً لتوحيد الحركة الإسلامية، بطرحٍ جديد، ومصطلحٍ فريد، حرك به ساكن الساحة السياسية كعادته، بحديثه عن (النظام الخالف) الذي حاول أن يجمع به الأشتات، ويوحد به خصوم اليوم، رفاق الأمس.
* سيصعب على المحللين أن يتبينوا ويدققوا ويحسبوا التأثيرات المحتملة لاحتجاب الترابي عن الساحة السياسية السودانية، لأنه كان لاعباً محورياً في كل فعلٍ، وسيكون التحدي الأكبر مطروحاً في ساحة حزب المؤتمر الشعبي، الذي فقد برحيل الترابي قائداً ملهماً، وزعيماً خالداً، يصعب تعويضه، ويستحيل استنساخ خليفةٍ يماثله في نصاعة الحجة وقوة الإلهام، والقدرة على تجميع الأشتات، وتحويل مواطن الضعف إلى مصادر قوة ومنعة.
* اللهم إنه عبدك وابن عبدك احتاج إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه، وكفى بالموت واعظاً.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).