مقالات متنوعة

محمد لطيف : الفوضى الخلاقة أم.. مخرجات الحوار


في الربع الأول من العام 2005 أطلقت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية وقتذاك ما أسمتها نية الولايات المتحدة الأمريكية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.. إلى هنا وكان يمكن للحديث أن يكون عاديا.. وضربا من الأحلام الأمريكية الطوباوية.. أو حتى ضربا من ضروب التهديد للأنظمة الدكتاتورية الحليفة لواشنطن والتي تعج بها المنطقة.. غير أن عبارتين لافتتين تسللتا عبر ذلك الحديث.. الأولى عبارة الشرق الأوسط الجديد.. ثم الثانية وهي أخطر منها عبارة الفوضى الخلاقة.. وفي الشرح قالت الوزيرة يومذاك للواشنطن بوست التي نشرت الحديث.. إنهم.. أي بلادها.. ستتوسل بالثانية للأولى.. أي أن الفوضى الخلاقة هي السبيل لخلق الشرق الأوسط الجديد..!
كان ذلك الحديث تحديدا في أبريل من العام 2005.. في ذلك الوقت كان السودان في أحسن حالاته.. كان المفاوضون من الطرفين قد فرغوا لتوهم من توقيع اتفاقية سلام شاملة ومرضية.. خاصة لحملة السلاح في الجيش الشعبي.. بعد جولة طويلة من المفاوضات.. ودعم هائل من المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة نفسها بلغت حد تفرغ وزير الخارجية الأمريكي كولن باول.. والذي سبق رايس.. لمتابعة أمر المفاوضات بنفسه.. وكانت الآمال العراض تكتنف الخرطوم بغد مشرق.. وبعد أسبوعين بالضبط من التوقيع على اتفاق السلام السوداني كانت الدكتورة رايس في البيت الأبيض توقع على دفتر حضورها في المشهد العالمي كوزيرة خارجية لأعظم دولة في العالم.. وبعد شهرين ونيف كانت تصوغ وتطلق مصطلحها الجديد.. الفوضى الخلاقة.. سبيلا للديمقراطية في الشرق الأوسط..!
غير أن الخرطوم في ذلك الوقت.. رسميا وشعبيا.. لم تكن لتعير ذلك المصطلح اهتماما لسببين اثنين.. الأول الإحساس الدائم لدى السودانيين أنهم ليسوا جزءا من الشرق الأوسط.. رغم أن السودان كثيرا ما يدفع ثمن أية هزات ارتدادية تعقب زلازل الشرق الأوسط المستمرة.. أما السبب الثاني والأهم.. فقد كانت الخرطوم يومها.. أيضا رسميا وشعبيا.. مشغولة بالتحضير لبدء الفترة الانتقالية بعد التوقيع المبهر على السلام مطلع ذلك العام.. وكانت القناعة قد تشكلت لدى الكثيرين.. أن اتفاقية السلام الشامل.. بكل نصوصها.. ثم الدكتور قرنق بثقله.. ثم الجيش الشعبي ببقائه.. كلها مما سيعين على تفكيك دولة الحزب وإنجاز الخيار الديمقراطي.. دونما حاجة للفوضى الرايسية.. خلاقة كانت أو غير خلاقة..!
والآن.. وبعد انقضاء عقد من الزمان على إعلان كونداليزا رايس لنظريتها.. الفوضى الخلاقة.. لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.. تبقت ثلاث حقائق أساسية.. الأولى أن الشرق الأوسط قد شهد بالفعل تطبيق النظرية.. ولكن بخسائر فادحة وبمردود يكاد يكون صفريا.. مصر مرت بالفوضى كاملة.. فقدت استقرارها.. ثم فقدت الديمقراطية.. ليبيا اجتاحتها الفوضى ولم تنعم بالديمقراطية.. ولا تزال الفوضى الخلاقة تطحن سوريا والأرجح ألا تعود سوريا التي نعرف.. وقبل هذا وذاك طحنت الفوضى العراق ولما تترنح.. الحقيقة الثانية صحيح أن السودان كان بالفعل بمنأى عن تطبيق الفوضى الخلاقة بالشكل الذي شهده الشرق الأوسط.. ولكن الصحيح أيضا أن كل المعطيات التي تم الرهان عليها لم تنجز المشروع الديمقراطي بل انتهت بكارثة.. صحيح لم تسبقها فوضى وإن ترتبت عليها.. وهي انفصال الجنوب.. أما الحقيقة الثالثة فهي أن كل المطالب التي استُغِلت في إطلاق الفوضى الخلاقة هنا وهناك ما تزال ماثلة.. ليبقى السؤال: هل تختار الخرطوم السقوط في حزام الفوضى الخلاقة باختيارها أم.. باختيارها أيضا.. تؤسس لطريق ثالث ربما يكون التعاطي الجاد مع مخرجات الحوار الوطني أحد ملامحه..؟