حسين خوجلي

للأذكياء فقط


كان أحد الشعراء السودانيين المشاغبين شديد الحرص على اجتماعات اتحاد الكتاب أو الأدباء السودانيين والاسم هنا حسب (التساهيل والمناخات) وما إن يجلس الجمع ويبتدروا النقاش ويدخلوا لجج القضايا حتى (يسرح) الرجل بعيداً ويرعى (غنم إبليس) كما يقول السودانيون ما قبل السبعينيات.. وبعد أن يكمل السرحان تأخذه الغفوة (والغفوة تحلى) في مثل هذه المجالس ولكم في الجمعيات التأسيسية والبرلمانات بشتى المسميات أثر وذكرى وأسوة حسنة. ورحم الله المصورين من أهل الفوتوغرافيا والفيديو الذين يمنعهم في الكثير من الأحيان الحياء من تصوير الشخير ولعاب الاسترخاء.. وللحق فإن أكثر النواب حين يستيقظون عند ضرب المنضدة أو فرقعة طلب الفرصة أو هياج نقاط النظام يصيبهم خجل مرصود.. إلا أن صاحبنا الأديب الشاعر عندما يستيقظ يحدث هياجاً عاصفاً وتذمراً عارماً ويصيح بأعلى صوته (أين حرية توزيع الفرص التي تدعون؟!) أين الصوت المناوئ لهذه السفسطة والطحن الذي ما ولد يوماً طحيناً؟ أين فرصتي وفرصة الذين يشاركونني في الرأي؟! ويصول الرجل ويجول مقرعاً المنصة (إذا كنتم لا ترغبون في رأينا فلماذا تركتمونا نتكبد المشاق والحضور لمثل هذه الاجتماعات المطبوخة)؟!

* صمت عابر وهمهمة قلقة وصمت جديد حتى تسترد المنصة أنفاسها ويقول مدير الجلسة في صوت خفيض غير مجلجل يسمق بالحياء والغضب المرصود وادعاء الديمقراطية الكذوب شماعة السودان الأولى القاسية حمالة المعاني (يا جماعة بالله عليكم ساعدونا بالهدوء.. ودعونا نعطي الفرصة للأخ الشاعر الثائر الذي قال في حق المنصة ما لم يقله مالك في الخمر)..

* تفضل يا أستاذ وخذ فرصتك بالكامل.. يبحلق الرجل في اللاشئ ويترنح.. ولكم كانت فجيعتنا كبيرة حين التفت شاعرنا الثائر الذي ناحية جاره المتابع وقال في هدوء جارح (يا هذا ماذا كان يناقش هؤلاء القوم؟!) وقبل أن يفيق المجلس من الصدمة والضحكات يعود شاعرنا من جديد إلى غفوته العميقة التي لا يسمع من قاع بئرها حتى جلجلة الضحك حول (قنبلته) والتعليقات القارصة والمؤلمة، وكعهده لا يبالي.

* وبالرغم من إصرار الرجل على عدم دفع الاشتراكات أو الانضباط بجانب الانتقاد المؤلم فقد أصر شيخ الأدباء على عدم طرده بحجة حكيمة تقول (دعوه فإن لكل رجل حوبة)..

* وإن كان هذا يحق في الأدب ومنتدياته فإنني أطالب بإبقاء بعض النيام ببطاقة العضوية في السياسة.. بكامل الامتيازات والراتب والمكانة والغفوة (اللذيذة).. لأن إتخاذ القرار الذي يحتاج إلى دأب وقراءة ومتابعة وعلم قد غادره الكثيرون وفارقوه مفارقة (الطريفي لي جملو)..

* فقد حدثني أحدهم أن رمزاً كبيراً يملأ الأرض هتافاً في الأزمات الأخيرة وصخباً لم يقرأ الدستور ولم يقرأ التعديلات.. ولا يعرف أن المعارض الكبير بمذهبه العملي وجماعيته في التفكير قد رسم مستقبل السودان السياسي غير الدستور والحريات والوفاق والحزب والمنافسة وهو المسرح الذي لا يملك فيه الكثيرون من اصحاب الصخب غير التقليد والمزايدة.

* ومما صدق فيه الراحل عمر المكي- التنفيذي الماركسي الشهير الذي عكف في أخريات أيامه على التصوف ومضى دون أن نسجل اعترافاته وأوبته- قوله لي في مكتب أحد المحامين الأصدقاء (إن القرار الأخطر في تاريخ السودان المعاصر إعلان مايو في تخلقها الأخير هو تطبيق الشريعة الإسلامية وهو قرار لن يستطيع أحد أن يتجاوزه حتى سكرتير الحزب الشيوعي بجدليته المادية وقطعياته الفلسفية وسيبقى النميري به حتى وإن لم يكن واعياً لذلك أميراً لكل السنوات القادمة وسيظل كل الرؤساء القادمين مجرد أمراء أمصار أو محافظين للمديريات السودانية، بعد هذا القرار الصعب) والعهدة على الراوي.

* نعم ستبقى القرارات الكبار حتى وإن تمرد البعض في طرقاتها لإثبات الذات أو بالصراخ (إننا هنا) لا غير وهي الأشد خلوداً..

* إن الرجل الحالم ما زال لا يعرف كيف يكون الحزب من القواعد وحتى القمة ولكنه يعرف جيداً كيف يحطمه!!

* إنه الرجل (المقسوم ما بين مستر جيكل ومستر هايد) الذي تصاعد بالمفاجأة والقرارات السرية دون المجموعة يريد أن يلوي عنق الحق والحقيقة ليقول انتم معي كرهاً وطوعاً.

* وللأسف فليس للرجل فرصة في الاطلاع ليس لأنه لا يستطيع ولكن لأن الجماهير التي عرفت خريطة المستقبل لا تسمح للفهم المتعجل في الزمن الضائع.. (أو علوق الشدة)..

* ولكن رغم لظى الشتات فإن المجموع المستنير قد أدرك الآن بلا غبش أن الإنتظار المر لمستقبل الحزب والجماعية خير من المنال السهل لحكومة عمرها في الزمان أقل من طموحات غرير القرشيين وغطائها من أهل الحجى ما تحاوله بالأماني ما فقدته بالشطط.

* قال الشاهد إن أمريكا قد قالت إن قوة المفكر الكبير ومجموعاته لا تفني إلا بالتصفية ولذلك فإن العم سام ما زال ينتظر حمامات الدم ليصدق بأن الذي يجري يستحق فقط التصفيق.

* وقال مما دون ذلك من الفقراء مسلوبي الإرادة السياسية أو منتظري ناقلات القمح التي تشتري صمت الملايين الجائعة التي لا تملك رصيداً ولا أرضاً ولا مشروعاً.. إننا لم نقدم للخرطوم غير (إيحاءات نظرية) ولم ندفع دولاراً واحداً أو بندقية ثمناً للقيادة التاريخية.

* وان فعلوا فإننا وحدنا الذين نكتب الصك والتاجر اليهودي هو وحده الذي يقول للمساكين إن التوقيع غير مطابق أو أن المستند بلا رصيد.

* ويصمت العارفون عن بعض القول الصريح لأنهم للأسف يدخرونه شفقة.

* من قال لكم إن المخابرات هي ذلك الأبيض الذي يحمل دولاراته ومسدسه في الظلام ليبصم له الموالون خوفاً وطمعاً؟

* المخابرات يا سادتي الآن معاهد وأكاديميات ودراسة سايكلوجية (للحالة) في سياقها التلقائي.

* المخابرات صارت إرهاباً يفتي في عودة الخلافة الغائبة والمخابرات أصبحت مجاهداً مزيفاً يقتل رفاقه من وراء الصفوف والظهور وهم يواجهون التمرد.

* المخابرات صارت قصيدة نثر وأغنية عارية وقداسة للدولة القطرية التي لا تقدم الخبز والحرية إلا بعد بيع الفحولة واستباحة الدلال العربي والإسلامي.

* المخابرات أصبحت بنوكاً ومشروعات وأصدقاء الصفوة وسفيانيات ورجالاً جوف.

* ولا عصمة من هؤلاء وأولئك غير الشفافية والعمل في النهار ووسط الجماهير وبالتقيد العسير بالمنافسة والبرنامج ولكن حتى هذا أصبح مستحيلاً ومراقباً!

* إن الفرق بين التخابر والتفاكر شعرة إما أن تأخذ قلوب الأقلام بالوعي أو تقهرهم بالطوارئ.

* لقد تم إخلاء القاعة تماماً إلا من السياسي المتظاهر في ضبابية بعد أن رسم فيلسوفه خريطة المستقبل.

* أو من الشاعر المشاكس الذي استيقظ من غفوته التاريخية وقرأ أبيات العارف ولسان حال الحكمة التي تعيد لأهل السودان درس الوفاء وذكرى التلاميذ والصوت يملأ السماء والصحائف أو خياشيم همس الحال وضجيج المقال..

كم سبحوا لك في الروح

وألهوك لدى البكور

ورأيتهم لك سجداً

كسجود موسى في الحضور

خفضوا الرؤوس ووتروا

بالذل أقوات الظهور

ماذا دهاك من الأمور

وكنت داهية الأمور؟!

* عزيزي الوضع السياسي الراهن أنهم (خفضوا الرؤوس وذبحونا ويطالبوننا (بالنوم فقط) مع أن الذبح كان باليقظة القافية لا الغافية، المخابرات سادتي أصبحت سكينة أو سكيناً وكفى.