الطيب مصطفى

رحمك الله أيها العملاق


رحم الله الشيخ الدكتور حسن الترابي، فقد بذل غاية جهده في سبيل تحقيق مشروعه السياسي والفكري في السودان بل وفي العالم أجمع منافحاً ومبادراً ومصادماً في المعترك السياسي ومفكراً ومجدداً ومؤصلا في مضمار الفقه والفكر الإسلامي، واشهد أن الرجل أخلص لقضيته وصدق وبذل في سبيلها حياته كلها ولم يستبق شيئاً.
لا أبالغ إن قلت أنه ما من رجل أثّر في مسيرة السودان السياسية مثلما فعل شيخ حسن الذي رغم أنه لم يبن مجده السياسي على إرث طائفي أو قبلي قد وضع بصمة بل بصمات كبرى في المشهد السياسي السوداني منذ أن التحق بمسرحه المضطرب من خلال إسهامه الضخم في إشعال ثورة أكتوبر 1964عبر محاضرته الشهيرة في مواجهة نظام الفريق إبراهيم عبود داخل جامعة الخرطوم التي كان قد جاءها محاضراً ثم عميداً لكلية القانون بعد حصوله على درجة الدكتوراه.
ذلك الدور الأكتوبري هو الذي منحه الكاريزما التي أهلته لحصد أكبر عدد من أصوات الخريجين في الانتخابات التي جرت عام ،1965 ودفع به كذلك لقيادة الحركة الأسلامية التي كان له دور مدهش في الانتقال بها إلى حركة جماهيرية واسعة الانتشار وتحقيق طفرات مدهشة هي التي جعلت منها رقماً صعباً في المشهد السياسي السوداني.
تلك الطفرات الكبرى للحركة الإسلامية السودانية التي انتهجت طريقاً مغايراً لحركة الإخوان المسلمين في مصر أقدمت خلاله على مبادرات متفردة في العمل الجماهيري المفتوح بعيداً عن المنهج النخبوي الانتقائي وجد تأييداً كبيراً وأحدث تأثيراً هائلاً على مستوى الحركات الإسلامية في العالم أجمع وكان لشيخ حسن باسهاماته الفكرية واجتهاداته الفقهية الجريئة التي منحته قبولاً دولياً ثم بثقافته الواسعة وديناميكيته وقدراته الخطابية واتقانه للغات الأجنبية كان لكل ذلك أثره الضخم في أن يتبوأ الرجل مكاناً علياً ويحظى باحترام كبير لدى الحركات الإسلامية ومدارس الفكر الإسلامي.
لعله ما من حزب تلقى ضربات موجعة من شيخ حسن والحركة الإسلامية مثل الحزب الشيوعي السوداني الذي كان هو الأكبر والأقوى على مستوى العالم الثالث، لكن قيادة شيخ حسن للحركة الإسلامية لم تؤهلها فقط لمناطحة ومنافسة الأحزاب الطائفية التي كانت تحتكر ولاءات جماهيرية ضخمة من خلال اعتمادها على قواعد طائفتي الختمية والأنصار إنما لزحزحة بل وإزاحة الحزب الشيوعي من المشهد السياسي السوداني الذي كان يسيطر على النخب والمثقفين وكانت انتخابات عام 1986 بعد حكم النميري دليلاً ساطعاً على الانتشار الواسع للحركة الإسلامية التي حصدت معظم دوائر الخريجين بعد أن كانت لا تحظى إلا بدائرتين في انتخابات 1965 التي اكتسح دوائر خريجيها الشيوعيون.
ربما اعتبر كثيرون أن غلطة الشاطر كانت انقلاب الإنقاذ الذي أجزم أنه كان مبرراً من الناحية السياسية بفقه المعاملة بالمثل ولاعتبارات محلية وعالمية كثيرة يضيق المجال عن سردها لكن مآلات الأمور وفتنة السلطة والثروة أدت إلى أن تجري الرياح بغير ما أرادت سفينة الشيخ وهذا حديث موجع يطول شرحه.
في سبيل تصحيح ذلك الخطأ اجتهد شيخ حسن كثيراً طوال سني الانقاذ وكان آخر اجتهاداته التي أملاها عليه شعوره بدنو أجله ثم ما رآه في دول الربيع العربي من احتراب خشي أن ينزلق إليه السودان مما عبّر عنه في حديث مؤثر منشور بالداخل بعنوان : (أريد الاطمئنان على الوطن قبل أن يتوفاني الله) جعلته يتناسى مراراته ويحدث تغييراً دراماتيكياً في خطه السياسي، ويقدم تنازلات كبيرة معملاً قيم العفو والصفح ويصبر على ابتلاءات الحوار الجاري الآن رغم خرق العهود ورغم (الكنكشة) ورغم كل شيء ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أقولها بصدق إنني لا أعلم سياسياً منذ الاستقلال تعرض لما تعرض له الترابي من سجون واعتقالات سواء خلال حكم الرئيس نميري أو نظام الانقاذ الحالي بالرغم من أنه هو الذي أنشاه ووضع لبناته الأولى وما من سياسي تحلى بقيمة الصبر على ابتلاءات السجون والاعتقال مثله فقد كان ذا جلد ورباطة جأش لا تجارى.
ذهب شيخ حسن وفي حلقه غصة أنه لم يذهب مطمئناً على وطنه كما أن مشروعه تعرض لانتكاسات أعلم يقيناً انه ليس مسؤولاً عنها، أسأل الله أن يعوضه عنها الفردوس الأعلى.


تعليق واحد