تحقيقات وتقارير

في حي مايو جنوب الخرطوم .. سوق “قورو” قصص وحكايات في عالم مختلف


* طالب: يجب على المسؤولين أن يراعوا حق الله فينا
* “سينكافا” المكونة من الأرز والشعيرية واللوبيا و”دمعة الدجاج” أكثر الأكلات شعبية رواجاً بالسوق
* يعج السوق بالسلع والبضائع التي شارف تاريخ صلاحيتها على الانتهاء
* تاجر: ” الكرور ده بجينا من دول الخليج وبقية الدول العربية”
* عيادات التداوي بالأعشاب “قدر ظروفك” لكافة الأمراض بأسعار زهيدة
* أكوام وجبال من النفايات والأوساخ متراكمة بجنبات السوق

كم هو مدهش أن تجد أسواق داخل ولاية الخرطوم بوضع مختلف وأناس مختلفين تكيفوا على طريقتها ألفوا بيئتها وألفتهم، نشأة هذه الأسواق تماشيا مع معاناة وظروف المواطنين، فيستغرب من يزورها من الوهلة الأولي فمثلاً “سوق قورو” الواقع بمنطقة مايو جنوب الخرطوم، عالم قائم بذاته أحياناً تحزن على طريقة معيشتهم ومجازفتهم، يعيشون لكي يحييوا فقط، والأمر الأكثر غرابة تجدهم مبتسمين ومنسجمين وراضين تمام الرضا بوضعهم وحياتهم، فالسوق شامل تباع فيه الملابس والأحذية ولعب الأطفال والمراتب والهواتف الذكية والإسبيرات والأدوات الكهربائية والمعلبات والأعشاب الطبية، بالإضافة الى الأطعمة بكل أنواعها وكل ما يخطر على بال بشر من أنواع الأكل والشرب واللبس والسلع التي يجلبها البائعون غالباً من الدول العربية وأخرى من المواطنين أنفسهم وأخرى من مكبات النفايات مع إجراء بعض التعديلات عليها وكل هذه السلع بأسعار زهيدة أو “رخيصة” أو كما يطلق عليها رواد السوق بـ” قدر ظروفك ” أو ” قدر جيبك “.

السوق رغم تأسيسة منذ فترة طويلة جداً تجاوزت الـ40 عاماً، إلا أنه عبارة عن رواكيب من القش والخيش مما يعكس حجم المعاناة ناهيك عن التردي الكبير في صحة البيئة وغياب تام للاهتمام من قبل الجهة المسؤولة بخصوص أكوام النفايات التي أصبحت كالجبال.
“الجريدة” قامت بجولة داخل السوق ومعايشة معاناة العاملين به ومرتاديه، وكشفت عدم الاهتمام الحكومي بهذا الشوق وتحسين الأوضاع البيئية والصحية وترقية البنيات التحتية.

إطلاق اسم ” قورو” على السوق جاء من ثمرة نبات الـ”قورو” الذي يستورد من دولة نيجيريا، التي تزرع فيها شجرة الـ”قورو”، وهذه الثمرة يوجد منها الأحمر والأبيض، وكان أول ما يباع في السوق، ويعتبر ذو فائدة كبيرة – حسب تجاره ـ لأنه يعمل على تقوية القلب وتخفيف آلام البطن ونظافته، بالإضافة الى معالجة تسوس الأسنان، ويحظر –الذين يتاجرون فيه- استخدامه من قبل الأشخاص المصابين بألم المعدة نسبة لـ”مرارته”.

مشهد أول :
عند مدخل السوق، أول ما شاهدناه وجذب انتباهنا عرض الفتيات رؤوس الدجاج المحمرة وبجوارها “ملاحة شطة” كوجبة تجد الإقبال والرواج الكبير ويباع الرأس الواحد بواحد جنيه، وبالقرب من مكان بيع رؤوس الدجاج يوجد محل لبيع “الموز المسلوق بالشطة”، وتنتشر في السوق بائعات الطعمية، اللائي يوجدن عند مدخل السوق ويجلسن على صف طويل يتوسط زحمة نسبية من المواطنين، الذين يمرون أمامهن أو الذين يشترون سندوتشات الطعمية، وفي هذه الأثناء يأتيك صوت شخص يفاوض في إحداهن من أجل زيادة قطع الطعمية في سندوتش دفع سعره.
التقينا بالطالب الجامعي من كلية علوم الطيران عصام وهو أحد مواطني المنطقة، قال عصام إنه ولد بهذه المنطقة وعاش فيها منذ صباه الباكر، وأكد أن السوق المعروف باسم سوق “قورو” يعني له الكثير فهو يجد فيه جميع ما يحتاجه من مستلزمات وأدوات منزلية بأسعار زهيدة جداً.
وأضاف في حديثه لـ”الجريدة” أن زيارة واحدة لهذا السوق لا تكفي، وقال “أي زول يزور سوق قورو لازم يزوره مرة أخرى ولو ما جاء ستصيبه حمى عديل كده”، وطالب عصام المسؤولين بضرورة الانتباه لهؤلاء المواطنين الذين وصفهم بأنهم مساكين، وقال “يجب أن يراعوا حق الله فينا، لأننا في بعض المرات حق الأكل بكون ما عندنا وبنوم جيعانين ونقوم الصباح نمشي الجامعات”، وأضاف “يجب على الدولة أن تقوم بواجبها تجاه المواطن على أقل تقدير توفر له الأساسيات من حاجياته”.

الأكلات الشعبية:
بالسوق جزء خاص لبيع اللحوم بـ”الكوم” بمختلف أنواعها من كوارع الدجاج وأحشائها، بجانب تصنيع بعض اللحوم كالفشفاش والقوانص واللحوم الحمراء الى “أقاشي”، حيث يجد “الأقاشي” إقبالاً كبيراً من قبل المواطنين، وتوجد بالسوق أكلة شعبية أخرى تسمى “سينكافا” تتكون من الأرز والشعيرية واللوبيا وتضاف إليها دمعة الدجاج، تعتبر من أكثر الأكلات شعبية تجد الإقبال داخل السوق والذين يقومون بصنعها غالبيتهم من دولة نيجيريا.

المعلبات:
يعج السوق بالسلع والبضائع التي شارف تاريخ صلاحيتها على الانتهاء، من معلبات وحلويات وعصائر جافة والمكرونة والشعيرية وعلب الزيتون والتونة وغيرها، وعندما اقتربنا من بائعيها بدت على وجوهمم علامات الخوف حتى أشفغنا على حالهم، وأوضحت لنا إحدى الخالات أن علبة الصلصلة وجردل العصير تباع بأسعار زهيدة جداً نسبة لاقتراب انتهاء الصلاحية، تتعدد الروايات بشأن مصادر هذه السلع، ويبدو أنها تأتي من التجار أنفسهم في حال اقتراب أنتهاء فترة صلاحية المنتج.

عجب العجائب:
المدهش أن البضائع التي تعرض في سوق “قورو” من ملابس بجميع أحجامها ومقاساتها وأحذية وقاشات وشنط وساعات ومراتب وكل ما يخطر على البال من سلع بالية وقديمة تسمى “نصف كم” أو”المرحوم قدرك” وهي تجد الرواج من زبائنها الذين تبدو عليهم علامات الرضا والقناعة بما يجدونه حسب ظروفهم.
أفادنا أحد الباعة عندما سألناه من أين تأتون بهذه البضائع القديمة؟ رد علينا بأن “الكرور ده بجينا من دول الخليج وبقية الدول العربية”، وذكر أن نهاية كل عام تشتري الدول العربية مثل السعودية موضات جديدة من الملابس ذات الماركات العالمية، وقال “الملابس القديمة يشتريها كبار التجار ويرسلونها إلى السودان لأنها تأتي من دون جمارك لذلك هي زهيدة الثمن، وأضاف: السوق يكون أكثر انتعاشاً في نهاية الأسبوع، خاصة يوم الجمعة وأيام المناسبات.

لعب أطفال
وتتواصل الدهشة داخل السوق فكل ممر به شيء مختلف وتوجد العديد من لعب الأطفال البالية والبعض منها بحالة جيدة والأخرى شبه جديدة، وللأطفال أيضاً مكان مخصص فهم يعتبرون من رواد السوق.
ومكان الأطفال ترتاده الأسر بأطفالها لشراء لعب بأسعار زهيدة.

عيادات وصيدليات أعشاب
السوق توجد فيه عيادات التداوي بالأعشاب “قدر ظروفك” لكافة الأمراض بأسعار زهيدة، وهذه الأعشاب تجلب من بعض ولايات السودان مثل جنوب كردفان والنيل الأزرق وأحياناً تجلب من نيجيريا، وتجد إقبالاً كبيراً من المرضى، وحسب من يبيعون هذه الأعشاب يوجد علاج لكل مريض أو كل حالة، كدواء علاج “الصداع والحمى والحساسية والالتهابات وآلام البطن والظهر وعلاج للأذن والأنف والحجرة ويوجد دواء للسعه الثعبان، ولدغة العقرب وأشياء كثيرة جداً لا يمكن تخيلها فكل ما يخطر ببالك موجود، والحمدلله.
وتجد رجل طاعن في السن يضع أمامه كمية كبيرة من الأعشاب بعضها داخل “برطمانيات وفاتيل وبعضها الآخر أخضراً ونوع ثالث جاف”.
وفي بعض الأماكن تجد عربة وضعت بداخلها كمية كبيرة من الزجاجات و”الفتايل والبرطمانيات” التي تحتوي على أدوية عشبية وبجوارها شخص يحمل مكبر صوت ينادي “علاج السكري والحمى والصداع وآلام البطن وآلام الظهر”.

غياب النظافة:
خلال التجوال داخل السوق ترى أكواماً وجبالاً من النفايات والأوساخ متراكمة بجنبات السوق وفي بعض الممرات الضيقة، ويلاحظ الغياب التام لمسؤولي النظافة ومسؤلي الصحة بالمنطقة مما يكشف عدم الاكتراث لما يحدث للمواطن المسكين بالمنطقة، ويقوم أصحاب المحال التجارية بدفع مبلغ معين من المال كأجر لشخص يقوم بترحيل النفايات من أمام محلاتهم الى خارج السوق.
والنفايات التي ترحل من السوق تجمع في أوساط الحي المجاور نسبة لغياب الرقابة.

الخلاصة:
هذه المشاهد المأساوية من داخل العالم القائم بذاته أو “العاصمة المظللة” كما يحب ان يطلق عليها سكانها، قمنا بنقلها ليس استخفافاً بهم، بل كان الهدف الأساسي لفت أنظار المسؤولين والجهات المختصة على الأقل للاهتمام بهم وتقديم أبسط المقومات الحياتية لكي يعيشوا، هذه الشريحة رغم المعاناة الكبيرة التي تواجهها لكنها أكثر قناعة بواقعها مقارنة بحال الذين يعيشون حياة الترف والرفاهية والذين يعملون في مؤسسات الدولة ويتقاضون أعلى المرتبات ولكنهم يصرخون في ظل الأوضاع الاقتصادية وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية وكأن الدنيا أغلقت أمامهم.

قضية يطرحها: وليد محمد إبراهيم
صحيفة الجريدة


‫2 تعليقات

  1. لك الله يا وطني، صورة تدمي القلب المحزون، وما خفي أكيد أعظم…

  2. تقاعس المسئولون عن إيجاد حل لمشكلة المواصلات أو النظافة أو النفايات وصاروا يشتموا المواطنين ، ديل ناس ما بيفهموا ، ديل ناس وسخانين ! هناك الولاية ( وبداخلها هدية الرئيس ) والمجلس التشريعي وهناك وزارات وإدارات ولجان بمسميات طنانة ورنانة ، وزارة البنى التحتية وزارة الشئون الهندسية وزارة البيئة لجنة الطرق لجنة النظافة لجنة مراقبة الأسواق لجنة مراقبة الأسعار لجنة مراقبة اللجان وفي النهاية النتيجة لا شيء من كل ذلك . هذه الوزارات والإدارات ليس وزارة واحدة لكل بل مثنى مثنى وزارة إتحادية وأخرى ولائية حتى المجلس التشريعي هناك الكبير النائم على الضفة الغربية للنيل والآخر بين النيلين لكن ليس هناك إرادة ولا نية لتقديم شيء يليق بهذا الإنسان المسكين المنتمي للسودان .