جمال علي حسن

الترابي.. نهر الفكر وسهول السياسة


اختلف الناس أو اتفقوا.. تناغموا أو تجادلوا حول آراء الترابي واجتهاداته لكن يبقى هذا الرجل هرماً من أهرامات الفكر الإسلامي العالمي وشامةً وعلامةً مميزةً من علامات التاريخ السياسي في السودان .
ولأن صراع التفكير والتجديد ضد التحنيط والتقليد ظل صراعاً حامياً محموماً على مر العصور، لم يكن الترابي الذي اختار لنفسه هذا المسار يخطط أو يتوقع أو يحرص على توافق وإجماع حوله بقدر حرصه على ترك علامات فارقة في مناهج الاجتهاد والتجديد والتعاطي مع الموروث الفكري الإسلامي بتقانات تفكير مبتكرة وحديثة موسومة بـ(براند) الترابي الخاص، الذي لم يستطع من اختلفوا معه أن يزيلوا أثر هذا الوسم المميز من على وجوههم.. فتجد الناس يشيرون لأحدهم ويقولون هذا من أولاد الترابي ويكون من نفس جيل الترابي أو أكبر منه سناً ومختلفاً معه سياسياً، لكنه يحمل العلامة الترابية المميزة في لغته وتعبيره ونظرته للأمور وأدبيات لسانه بل تجد فيه شيئاً من ابتسامة الترابي الخاصة المتميزة التي ظل الترابي يحتفظ بها في كل حالاته وأحواله.. مبتسماً وهو يجادل في قضية سياسية غير متصلة بشبكات الفرح والإبتسام.. مبتسماً وهو في طريقه للسجن.. مبتسماً داخل زنزانته.. مبتسماً وهو يغادرها.. مبتسماً في محاضرة عن الموت.. مبتسماً في كل الظروف، فابتسامته كانت هي طاقة المناعة التي يتكيف بها مع الظروف المختلفة.. هي معطف الشتاء ونافذة الصيف.
وتلك الابتسامة حاول الكثير من خصوم الترابي تفسيرها وتخمين معناها مثل منصور خالد وجون قرنق وغيرهما لكننا لا نراها إلا ابتسامة الواثق المؤمن المطمئن لمواقفه وقناعاته، وابتسامة الُمحلِّق على ارتفاعات شاهقة فوق سطح الأرض، يكتفي فقط بالتلويح للآخرين بهذه الابتسامة عوضاً عن الشرح والإسهاب بسبب اختلاف المناسيب وبعد المسافة وفارق الزمن .
اجتهادات الترابي الفقهية ونسفه الجريء للكثير من مسلمات المتلقنين، كانت تلك الاجتهادات تتطلب منه أن يرتفع بعيداً عن الحصى التي تتناوشه .
ولأن الترابي لم تعترضه أو تتملكه عقدة الجمع بين شخصية المفكر المجتهد وشخصية السياسي الممارس، استطاع في وقت من الأوقات أن يمتلك بطاقتين متناقضتين بالتزامن وفي نفس ملعب السياسة.. البطاقة الأولى كانت هي بطاقة أبرز المؤسسين لفكر السلطة الحاكمة والبطاقة الثانية هي بطاقة أبرز قيادات المعارضة لنفس هذه السلطة ..
ولم يكن هذا تناقضاً أو لعباً على حبلين بل كان بسبب إيقاع التطور والتفاعل في الساحة السياسية بطبيعتها مع بقاء الفكرة على مستوى التوجه وعلى مستوى التربية الفكرية لتلامذة الترابي واتباعه داخل فضاء الحكم والمعارضة في آن واحد.. فأصبحت أقوى بطولات لعبة السياسة في السودان عبارة عن منافسات بين الأندية (الترابية).
يختلفون في التقديرات والمواقف السياسية لكنهم لا يمزقون أوراق الفكرة ولا ينكرون دور المفكر الذي كان سجانه في وقت من الأوقات تلميذاً من تلامذته يفتخر باستقاء منهج حياته من لسان الترابي وعلمه، ويتحفظ فقط على مواقف سياسية ضمن طاحونة التقديرات السياسية التي ليس لها حال .
تلك هي عبقرية من يشق قناة من نهر الفكر ليسقي مشروعات ممتدة على سهل السياسة فلو تعثر المشروع أو تقاطعت التقديرات فإن القناة التي تسقي تلك المشروعات المتعددة ستظل واحدة وستبقى .
تقبله الله في الصالحين إن شاء الله .
شوكة كرامة
لا تنازل عن حلايب وشلاتين.