تحقيقات وتقارير

الترابي.. تعلية شأن العقل في مقابل النقل


ما هي اهم هذه القضايا وكيف تمت إثارتها ونقلها من بطون الكتب الي ساحة الحوار لتكون مدخلا لمعارك فكرية محتدمة بين الطرفين من يقفون في خندق التأييد ومن يجلسون في مربع المعارضة لافكار واتجاهات الرجل التحديثية التنويرية؟
بعيدا عن نقطة التجاذب والاستقطاب فان مجمل ما طرحه الرجل الغائب عمد الي تحريك البركة الساكنة منذ عقد الستينات من القرن الماضي وحتى لحظة رحيله ظيرة أول امس (السبت)، قضايا التجديد والتحديث بدأت تظهر في أوساط حركة الاخوان المسلمين في نطاق ضيق ودوائر محدودة وانتقلت من محابس صدر الشيخ الترابي الي المجالس الخاصة وتحول الهمس حولها الي جهر زادت وتيرة تسارعه وارتفاعه وسط تجمعات الاسلاميين.
تدور حول قضايا تجديد اصول الفقة الاسلامي وتحديث الفكر التقليدي اول ما يصفه الشيخ الترابي بشوائب وسواقط التاريخ وتشذيبه وتهذيبه والانتقال به من صفوف المدرسة النصية مرورا بالاستقرار في حيز المدرسة التي تجمع المقاصدية وتلاقيها بالمدرسة العقلانية والتي يسميها خصومه بـ(العصرانية)، حيث الجمع والمواءمة ما بين النص الشرعي مع الواقع الظرفي مع تعلية شأن النقل ومحاولة الترجيح بين الأمرين في حالة التعارض.
الترابي رائد نقل المرأة من المخدع الي العمل العام
الشاهد ان اهم تلك المسائل المثيرة للجدل قضية المرأة حيث قدم الدكتور الترابي طرحا جديدا حول أدوارها ورسالتها في خطوة لنقل المرأة من مخدعها ومحبسها الي فضاءات العمل العام والمشاركة في الهموم القومية والخروج من البيت حيث افتى بجواز زواج المرأة المسلمة من الكتابيين يهود ونصارى وان شهادتها تعادل شهادة الرجل.
هذا عطفا على الجانب الفقهي في امكانية جواز امامتها للمصلين بينما زادت حساسية النقاش في توليتها للولاية الكبرى وانخراطها في مملكة القضاء، (المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع) وعلى اساس هذا الكتاب انجزت الحركة الاسلامية مشروع تحرير المرأة على نحو اتاح فيه الرجل قدرا كبيرا من الانفتاح والمرونة والتوسعة في مقابل التضييق الذي ظل يتمسك به الاخرون فاصبح القطاع النسوي شريكا للرجل من خلال نظرية تمكين المرأة ورفع قدرها وشأنها وفقا لما ظل يردده الشيخ الراحل من المناداة بالمساواة والعدالة وعدم التمييز السلبي بين العنصر النسوي والذكوري.
الترابي وتحرير المرأة قلق السلفيين واليساريين
اذا كانت هذه المبادرة قد ازعجت السلفيين باعتبار انها شكلت خروجا عما اعتبروه اجماعا ففي المقابل كانت تعبر عن وجه من وجوه القلق داخل الحركة اليسارية التي كانت تحتكر الدعوة لتحرير المرأة، حتى جاء الدتور الترابي مختطفا هذا الشعار من القوى اليسارية مستقطباً من خلال المرأة التي انحازت لبرنامج الحركة الاسلامية بشكل غير مسبوق انتهى بانفراج في قضايا المرأة على نحو الذي نعايشه حاليا، مضى الترابي في تنفيذ مشروعه بصلابة من غير تراجع وبقوة من غير تنازل، متجاوزا المطبات كافة التي اعترضت طريقه في سبيل حسم ملف المرأة رغم حساسية هذه القضية وتشابك جوانبها في مجتمع محافظ وتقليدي.
كيف عالج الترابي جدل ( الدين والفن)
اذا كانت قضية المرأة هي الامر الاول في سلم اهتمامات الشيخ الترابي فان برنامج عمل الرجل اتجه نحو الفن الاكثر تعقيدا من ملف العنصر النسوي فألف الشيخ الترابي كتاب (رسالة الدين والفن) بكافة انواعه، انتقل الترابي بقضية النغم والطرب والمعازف والمزامير وتوابعها من حيز التحريم والحظر والكراهية –في حدودها الدنيا- بالشكل الذي ينادي به دعاة السلفية وبعض رموز الاخوان المسلمين الي مربع التحليل والاباحة والعبور بها من حيز التنظير الي الواقع العملي لتكون شكلاً من اشكال التعبد والتقرب بها الي الله زلفى، وفقا لمنطلقات الشيخ الترابي التي لاقت ثورة احتجاجية عارمة ومعارضة قوية غير انه انتصر لرؤيته وسار بها حتى تحول كتابه من سطور وكلمات وردت في كتبه ومؤلفاته، الي واقع عملي يتحرك بين الناس كحراك مجتمعي وثقافة عامة.
الترابي الفن ترويح لا يفقد وقاراً ولا يلامس مجوناً
بذات القدر والافق الذي قدم الترابي به معالجاته لقضية المرأة حاول انزالها واسقاطها على قضية الفن، ليس بعيدا عن المدرسة النصية التي ترى عدم مشروعية وجواز الفن الي استخلاص نصوص لتأييد وجهة نظره بجانب استخدام العقل لتكملة بناء مشروع الفن. حاول الدكتور الترابي وفقا لرؤيته ان يؤسس لفن لا يكون عابثا ولا واهيا وانما ترويحا للنفس البشرية لا يفقد وقارا ولا يلامس مجونا في حالة تشخيصية نادرة قد تتشابه بعض فصولها مع رؤية اخرى طرحها العديد من الدعاة من بينهم الدكتور يوسف القرضاوي غير ان الاول تجاوز المحاذير واحتفظ الثاني بموقف يتشابه مع الخط العام لحركة الاخوان المسلمين، المنقسمين بين فريقين تجاه الموسيقى والاغاني الصخب، فيما ارتاح الدكتور الترابي واستقر رأيه حتى على اباحة الفن الغربي الوارد من الدول الاوروبية التي شكلت جزءاً من ثقافة الشيخ الترابي.
هل سيموت مشروع الترابي ويُقبَر؟
نهضت الخرطوم لاحتضان غالبية الرموز الفاعلة في الساحة الخارجية مؤسسا كيانا واسعا لتجميع الكثير من العناصر المؤثرة تحت مسمى (المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي)، مقابل النظام العالمي الجديد الذي انشأته الولايات المتحدة الامريكية وحاول الدكتور الترابي تنزيل مادة كتابه (خطاب الدين الاسلامي لاهل الملل الاخرى) لحيز الواقع، فيما عرف بالمشروع الابراهيمي أو (الملة الابراهيمية) الذي يستقطب كافة الديانات كـ(جبهة للمؤمنين) لمواجهة تحدي (جبهة اللادينين والملحدين) –طبقا لفلسفة الرجل صاحب النظرية.
ونقل الترابي التعبد الي ما اطلق عليه (التدين الشعبي) ثم الاجتهاد الشعبي والجماعي العام وفتح الباب على مصراعيه حتى في القضايا التي كانت تعد محسومة في جانب المفاهيم والافكار ومع كل ذلك يبقى مشروع الرجل محلا للنقد والتصويب تقييما وتقويما في حالتي النجاح والفشل –التقدم والانحسار واذا كان المشروع الفكري والفقهي قد جلب له سخط خصومه السلفيين فان مشروعه السياسي قد جلب له سخط الغرب.
يبقى السؤال الاهم: هل سيموت مشروع الترابي ويُقبر مثلما قُبر ام يظل حياً حتى بعد غيابه ورحيله؟!

الهادي محمد الأمين
صحيفة حكايات